فرق بين التفاهات والمساهمات العلمية الحقيقية
بهجت العبيدي المصريين بالخارج
يظل المثقف هو والعدم سواء بسواء، ما لم يقم بالدور المنوط به، ذلك الدور الذي من المفترض ألا ينفصل عن البيئة التي يحيى بها، ولا عن المجتمع الذي نشأ فيه، ولا عن الوطن الذي ينتمي له، ولا عن الأمة التي ينتسب إليها، فهو يظل في دوائر انتماءاته المتعددة والمتدرجة من الأضيق إلى الأوسع، من الأصغر إلى الأكبر.
فالمثقف الحقيقي يفقد أهم خصائصه وسماته، إن تخلى عن معركة الوجود التي خُلِقَ - هكذا نؤمن - لأجلها، والتي هي في جوهرها الأصيل الارتقاء بالعقل الإنساني، الذي يجب أن يكون هو شغل المثقف الشاغل.
وعلى المثقف العربي أن يحيط بثقافته العربية الممتدة قرونا في أعماق التاريخ، وليس عليه أن يكتفي بذلك، بل لابد أن تنظر عينه الثقافة في الحضارات المختلفة، ليعيش عصره على أسس متينة من تراثه، وأعمدة راسخة من التراث الإنساني كله.
إن الواقع الذي نعيشه يكشف يوما بعد يوم، ومعضلة خلف معضلة، وقضية وراء قضية أن العقل العربي مستغرق في القشور، بعيدا عن اللب، أقرب للضياع منه إلى الحضور في قلب العالم، أبعد ما يكون عن اليقظة المتوقدة التي تقرأ الواقع قراءة موضوعية، مُسْتَقْبَلة للعناصر المكونة لهذا الواقع استقبالا نقديا يجعل من الأحكام الصادرة أو النتائج المستنبطة متفقة مع المنطق، واستدلالاته الواقعية.
على المثقف العربي أن يعرِّي هذا القصور تعرية كاملة، تكشف زيف النتائج، وتظهر عورة الفكر المنغلق الذي يتخذ من كل العالم عدوا، ويركن للدعة الموهومة برضا زائف عن حال يجب أن نثور عليه، لنخرج من شرنقة نسجناها وغزلناها من خيوط العنكبوت؛ ظانين في أنفسنا تفوقا واهمين ذواتنا بالمشاركة الحقيقية في الحضارة الإنسانية المعاصرة؛ التي تبنى على العلم والعمل والبحث مُعْلِيَةً العقل النقدي، والفكر المستنير.
إن أكثر ما يحب أن يقوم به المثقف العربي هو أن يصدم ذلك الخنوع الذي رُكِّبَ في الشخصية العربية تركيبا، حيث أننا نؤمن أنه ليس أصيلا فيها بل جُلِبَ إليها جلبا في إطار معركة ثقافية ممتدة منذ قرون، وللأسف حتى هذه اللحظة هزمنا أنفسنا بأنفسنا فيها، ذلك حينما نحَّيْنا العقل جانبا، والتمسنا غيره سبيلا.
ولكي نتعرف على ذلك البون الشاسع بيننا وبين المجتمعات الحية، وعلى شكل المعركة – معركة الوعي - التي يجب أن نخوضها، التي نزعم زعما، هو لليقين لدينا أقرب، أن الموت في سبيلها شهادة، تعالوا نتأمل مفهوم المساهمة والمشاركة في تلك الأزمة هزت العالم كله، بل زلزلته ومازالت تزلزله زلزلة، وهي أزمة ڤيروس كورونا، والتي قدَّم فيها العالم المتحضر علميا محلمة طبية خالدة، حينما استطاع خلال عام من البحث المضني، ساعده فيه ما توصل إليه العقل الغربي من تقدم تكنولوجي، أن ينتج لقاحا يحاصر به هذا الانتشار الرهيب للفيروس الشرس، والذي حصد أرواح الملايين في ذروة انتشاره خلال العام المنقضي، هذا الذي جعل فريق غيور من مجتمعنا يثير الحمية في النفوس بهدف دفع المجتمع دفعا لإعلاء قيم التعليم والعلم والبحث العلمي، حيث أن ذلك فقط الطريق الذي علينا أن نسيره، لا لنلحق بهذه الأمم التي سبقتنا بأشواط، فهذا غير ممكن في المستقبل المنظور، بل لنضع الأسس الصلبة الحقيقية لهذا البناء العلمي المنشود الذي يعلو ويتراكم بمرور الوقت، وانقضاء السنين في جد واجتهاد وعمل مضن. فإذا بالراحة الخادعة تأتينا، وإذا بالرضا الخانع يلبسنا، وذلك من خلال مشاركة وهمية تقنع هؤلاء البسطاء، من مثل إلقاء الضوء على تبرع من ثري عربي، أو مساهمة طبيب مسلم أو مشاركة طبيبة مسلمة في بحث في دولة من دول العالم الغربي المتقدم علميا، وتضخيم مثل تلك الأشياء، كما يحلو لبعض المشايخ في معرض ردهم على من يصنفونهم "علمانيين" والذين يعايرون المسلمين من أن لا دور لهم في مكافحة ڤيروس كورونا سوى التوجه بالدعاء لله سبحانه وتعالى.
فإذا كان هذا هو الدور الذي نفتخر به، وهذه هي المساهمة العلمية التي يمكن أن تشارك بها أمة عددها مليار ونصف من البشر، وتمتلك من الثروات ما ليس عند غيرها - فبئس المساهمة تلك - فهذا عينه هو الخنوع، حيث أن تلك المساهمة هي ذلك الفشل نفسه، وحيث أن من يرددون ذاك ذاته يعملون على تغييب العقل وينشرون الجهل المركب.
حينما يطالب العقلاء الغيورون هذه الأمة بأن يكون لها دور وأن تسهم بسهم علمي حضاري، فهم لا يقصدون تلك التفاهات التي يذكر هؤلاء ليخدعوا بها البسطاء، وليس هذا هو الأمل المنشود، إن المطلوب - الذي يسعى له هؤلاء المطالبون بدور للعرب والمسلمين بالحث عليه - هو أن يكون لدينا بحث علمي رصين، وأن يكون عندنا مراكز علمية حقيقية، نفيد من خلالها أنفسنا والبشرية وننطلق من خلالها إلى آفاق غير مسبوقة في كافة مجالات الحياة. وأن نتخذ من العلم منهج حياة، وأن تكون ميزانية التعليم والبحث العلمي أضعاف مضاعفة مما هي عليه الآن، وأن يكون هناك اهتمام ورعاية بالعلماء والباحثين، وأن يتم توفير البيئة الملائمة لهم، وأن يصبحوا في المقدمة من الناحية الاجتماعية.