مذكرات مهاجر مجهول .. الجزء الثاني (26) ..عصير الرمان 3
اشرف على يعقوب المصريين بالخارجو بعد ابراره مع رفاق الهجرة غير الشرعية على شاطئ مهجور في جزيرة صقلية الإيطالية، تمكن فوزي من الوصول الى ميلانو في قطار الليل. لم يدفع أي تذكرة و عندما مر الكمساري اختبأ في حمام القطار كما نصحه زملاء الهجرة. كانت رحلة مرهقة تماما و هو الذي لم يكن بعد شابًا يافعا كما كان.
وصل الى ميلانو الضبابية الباردة في الصباح و بات عليه إن يأخذ مترو الانفاق حتى يصل الى ضاحية عمالية على اطراف المدينة. دلف في مدخل العمارة المتهالكة القديمة التي يسكن بها قريبهم الذي كان هو كل امله في هذا البلد الغريب. دق على الباب عدة مرات و لكن لم يفتح أحد. كان في الصباح و لا شك أن قريبه كان قد ذهب للعمل او غيره من الاشغال. جلس على الارض امام الباب و انتظر، و طالت ساعات انتظاره حتى المساء حتى تصلبت مفاصله وكادتا أن تتجمدا يداه من الصقيع القاسي، و كانت نظرات الطالعين و النازلين تؤلمه ايما ايلام و لكن لم يكن عنده أي اختيار آخر غير الإنتظار.
و أخيرا وصل زكريا قريبه الشاب و كانت معه امرأة قمحية اللون سوداء الشعر جميلة الملامح و كان الإثنان في اوائل الثلاثينيات من العمر. احتضنه زكريا بشدة و اعتذر له عن طول الانتظار و قدم له ماريا. عرف فوزي أن ماريا إيطالية من جنوب إيطاليا و بالتحديد من كالابريا، بوز شبه الجزيرة الايطالية التي على شكل حذاء ضخم يكاد يقسم البحر المتوسط الى قسمين، شرقي و غربي. كان فوزي قد فرح بوجود ماريا ظناً منه انها مصرية و انها زوجة زكريا الذي لم يكن يعرف انه متزوج.
كان زكريا قد وصل إيطاليا عدة سنوات قبل ذلك بنفس طريقة وصول فوزي.
قدم زكريا ماريا لفوزي بوصفها صديقته. و عندما دخلوا الشقة اسرعت ماريا بطبخ العشاء في المطبخ الصغير ، و جلسنا ليأكلوا معنا أحلى مكرونة أكلها فوزي في حياته حتى يومها مع انها كان معمولة فقط بالثوم و الزيت و الشطة و البقدونس.أكل بشراهة لأنه كان في غاية الجوع بعد أن وضع على المكرونة كمية كبيرة من الجبن المبشور كما وضعاه زكريا و ماريا.
و بعد الحديث الطويل و معرفته بأن زكريا يتكلم الإيطالية بطلاقة و انه يعمل في مصنع و مستقر و حصل أخيراً على شهادة الإقامة الدائمة في إيطاليا ، و طمأنه أنه أيضا سوف يقنن وجوده في ايطاليا و لكن يلزمه بعض الصبر. و استئذنت ماريا في الدخول للنوم و دخلت غرفة النوم الوحيدة الموجودة في الشقة الصغيرة و اغلقت الباب خلفها. استمر فوزي و زكريا في التسامر و الحديث عن مصر و الأقارب حتى ساعةٍ متأخرة من الليل و عندها قام زكريا و اعد الفراش لفوزي فوق الكنبة في الصالون و دخل نفس غرفة النوم التي دخلتها ماريا. تعجب فوزي و فكر كيف ينام معها و هي ليست زوجته، و كيف أن زكريا لم يخجل منه في ذلك؟
و في الصباح الباكر ايقظه زكريا مبكراً و اخبره انهما سوف يتناولان طعام الافطار في البار كعادته حيث كان له حساب مفتوح مع اصحابه. و هكذا استمتع فوزي بأول بريوش و كابوتشينو له في إيطاليا. و وصلا مشيًا على الاقدام الى ما يشبه السوق و كان في ميدان كبير مليئ بالنصبات التي كان التجار يعرضون عليها الكثير من البضائع المختلفة. قال له زكريا أن هذا السوق هو السوق الاسبوعي لهذا الحي. و أخذه الى إحدى النصبات و كان يقف عليها شاب بدا له من سيمائه انه مصري. و المصريون، برغم اختلاف ملامحهم و و تنوع الوانهم، إلّا انهم يعرفون بعضهم البعض من اول نظرة.
و قال له هذا هو محمود، من الإسكندرية مثلنا، و هو من ستعمل معه في الاسواق. و بعد التعارف تركه زكريا مع محمود و ذهب لمصنعه. و بقي فوزي مع محمود طيلة اليوم يساعده في بيع الخضروات و الفاكهة. و في آخر اليوم وضع محمود في يديه بعض النقود و قال له هذا اجرك اليومي، اذهب و اشترى بعض الاشياء لك. عاد و هو فرح بالليرات التي كسبها و و تناول العشاء مع زكريا و ماريا و كان العشاء نوع آخر من المكرونة و رائع الطعم مثل الذي كان بالامس.
و مرت الايام على هذا المنوال، و الأسابيع، و وجد مكانًا آخرًا للسكن و ترك زكريا و ماريا شاكرًا فضلهما عليه. و بدأ في تعليم نفسه اللغة الإيطالية و وجد انها لغة جميلة ، موسيقية النغم، و تنطق كل حروفها المكتوبة و لم تكن صعبة التعلم، خاصة و انه كان عليه التكلم بها طوال اليوم مع زبائنه في الاسواق المختلفة. كان هو و محمود يذهبان في كل يوم الى السوق الاسبوعي لحيّ مخلتف و كانا في بعض الأحيان يذهبان الى مدينة اخرى أو بلدة صغيرة قريبة من ميلانو.
و في احدى ايام الربيع الذي هلّ رائعا فانهى شتاء المدينة القارس، حدث أن تواجدت نصبته بجانب نصبة سيدة من عمره تبيع العطور و الصابون و مسحوقات و كريمات التجميل و الصحة. أحس بإنجذاب سريع و شديد لابتسامتها الرقيقة و ضحكتها الصافية و تعرفا سريعاً رغم انه كان أول يوم يراها و أحس و كأنه يعرفها منذ زمن بعيد. كان اسمها لويزا.