المُكَفّرون : من هولندا العصور الوسطى إلى مصر العصر الحديث
بهجت العبيدي المصريين بالخارج
”اللعنة عليه، اللعنة عليه في الصباح والمساء، اللعنة عليه في دخوله وخروجه، اللعنة عليه إلى الأبد، فليمسح أسمه من هذا العالم، وليجعل الإله منه معزولا عن اليهود، ولينزل عليه كل اللعنات… وأنتم الذين تعلمون الإله وتعرفونه، اعلموا أنه يحرم عليكم أي علاقة به، لا كتابية ولا كلامية، لا يقدم له أحد خدمة ولا يقترب منه أحد أكثر من أربعة أمتار، لا يجالسه ولا يكون معه تحت نفس السقيفة، ولا أحد يقرأ كتاباته…“
كان هذا هو أمر حرمان الكنيس اليهودي في هولندا للفيلسوف الذي خاب ظنهم فيه "سبينوزا"
هذا الأمر الذي يبدأ بصب اللعنات مثنيا بالعزل، عائدا للعنات الرب، والذي يخاطب المتدينين- أو إن شئت فقل المتطرفين- الذين هم فقط من يعلمون الإله ويعرفونه فهم مأمورون بعدم إقامة أدنى أنواع العلاقة حتى بالمكاتبة؛ بل تم تحديد المسافة التي لا يجوز بعدها الاقتراب من المغضوب عليه؛ والأكثر والأدهى من ذلك هو منع هؤلاء المتدينين من قراءة كتاباته؛ وهنا يظهر إلى أي مدى - في تصورنا - كان ضعف الإيمان في نفوس هؤلاء الذين يزعمون التدين؛ فلو كان الإيمان - كما نعتقد - قويا متغلغلا في القلوب ما خاف رجال الدين على أتباعهم من أيٍّ من أنواع القراءة.
هذا الأمر الكنسي هو فتوى دينية لا تقبل الأخذ والرد أو المناقشة وبالطبع هي حكم ليس فيه استئناف.
ولقد تلقف هذه الفتوى أحد المتطرفين اليهود فقرر أن يخلص الدنيا من شرور "سبينوزا" فإذا هو في جنح الظلام منقضا عليه بآلة حادة يريد الإجهاز عليه بضربة في عنقه، شاء القدر أن ينتبه في اللحظة الحاسمة الفيسلوف لتخطئ الضربة الرقبة وتصيبه في الجسد فينجو من الموت.
قُبِض على الجاني اليهودي المتطرف وفي التحقيق أعلن أنه كان يريد أن يكفي العالم شرور كتابات "سبينوزا" فسأله المحقق مثل ماذا؟ فأجاب أنه لم يقرأ شيئا له، وفي الإجابة على السؤال الثاني فمن أين علمت أن كتاباته شريره فأجاب أنه علم ذلك من أمر الكنيس اليهودي السابق الذكر.
نترك هولندا و سبينوزا والقرن السابع عشر في أوروبا ونصل إلى تسعينات القرن الماضي لنشهد نفس الجريمة التي وقعت لسبينوزا في القاهرة لأديب العربية الأول العالمي نجيب محفوظ حينما تم الاعتداء عليه في عنقه حيث نجح المتطرفون الإرهابيون هنا هذه المرة في الوصول إلى رقبة الأديب والتي كان لحظتها شيخا مسنا لا يستطيع أن يقاوم أو يقفز قفزة للخلف أو للأمام مثلما فعل سبينوزا الذي كان في مرحلة الشباب فخانت الطعنة الطاعن ولم تمس العنق. وإن شاء الله في الحالتين أن ينجو الكاتبان الكبيران اللذان تعرضا لمحاولة الاغتيال بنحر الرقبة نتيجة لفتوى دينية: الأولى لكنيس يهودي والثانية لشيخ أزهري؛ ولعلنا هنا نتذكر ما قاله الشيخ عمر عبد الرحمن تعليقا على رواية آيات شيطانية لسلمان رشدي حيث ذكر: أنه لو كنا قد قتلنا نجيب محفوظ ما تجرأ سلمان رشدي على كتابة مثل هذه الرواية، يقصد بها رواية "آيات شيطانية"، وهذه اللغة تعكس طريقة التفكير في التكفير كما تدفع أتباعهم إلى ابتكار الوسيلة في التنفيذ والتي كانت واحدة في مكانين مختلفين: أمستردام والقاهرة، وفي زمانين مختلفين: القرن الثامن عشر وأواخر القرن العشرين.
كانت هولندا في ذلك العصر، في القرن السابع عشر، هي واحة للحرية يلجأ إليها الذين يُضَيَّق عليهم في بلدانهم من الكتاب والفلاسفة، هؤلاء المنوط بهم تشكيل وعي شعب من الشعوب أو أمة من الأمم، هؤلاء الذين لا يمكن أن يبدعوا ولا أن يبدلوا حال أمتهم من حال إلى أخرى أكثر وعيا وفهما وإدراكا إلا إذا أطلقوا لعقلهم العنان ولخيالهم الجناحين.
وهذه هي نفس البيئة التي كانت في مصر في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين والتي كان نتيجتها ظهور تلك الكوكبة الأدبية والفكرية التي زخرت بها مصر، والتي مهد لها فيلسوف بقدر جمال الدين الأفغاني الذي احتضنته مصر بعدما لفظته دار الخلافة بالأستانة، وامتد تأثيرها في العالم العربي كله، فعلى سبيل المثال لا الحصر وجدنا تأثيرا كبيرا لعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين الذي استخدم المنهج الشكي في دراسة التاريخ، والذي أعلى من خلاله قيمة العقل إعلاء كبيرا. متبعا للمنهج الفلسفي لديكارت الفيلسوف الفرنسي، الذي سبق سبينوزا بقرنين من الزمان وأعلن هذا في بداية دراسته للبحث الأدبي في كتابه (في الشعر الجاهلي ) والذي كان سببا في تكفيره من قبل التيار المنغلق، هذا التكفير الذي مازال يستخدم حتى اللحظة ولم ينج منه في وطننا واحد يحاول أن يزيل الصدأ الذي ينخر في العقل العربي منذ قرون، هذا العقل الذي هو في حاجة إلى إعادة تشكيله لينبذ كل خرافة، ويغادر كل فهم أسطوري ويغاضب كل تفسير سحري، ويناهض كل المشعوذين، ذلك الذي سنخصص له مقالا لاحقا.