مذكرات مهاجر مجهول الجزء الثاني ”20”
المصريين بالخارجاشرف علي يعقوب
و في أثينا ، اثناء عقد مؤتمر تصلب الشرايين العالمي قابلت استاذ جامعي من جامعة تريستا بإيطاليا و كان من المعجبين ببحثي الذي قدمته في هذا المؤتمر، و شرحت له ابحاثي و نتائجها و حصولي على الجهاز الياباني و رحبت به اذا كان يريد ان يساهم في هذه الابحاث بإسم جامعته. فرح هذا الاستاذ و تحمس جداً لهذا المشروع و تواعدنا أن نتقابل بعد الرجوع لإيطاليا.
و في نفس هذا المؤتمر لمحت البروفيسور بانيان و لكني لم اكلمه، و اعتقد انه لم يلحظني.
في هذا المؤتمر ايضا حاولت ان اتحدث مع استاذة جامعية المانية مشهورة عالميًا بأبحاثها في مجال دهون الدم و تصلب الشرايين. اقتربت منها بأدب و عرفتها بنفسي و بدأت أن اسرد عليها ما أقوم به من أبحاث و لكنها اوقفتني بحدة و قالت:"لا يهمني ذلك و معكم لن أفعل شيئًا"، و دارت حول نفسها و تركتني في دهشة شديدة. لم يكن عندي أي تفسير لتصرف هذه الاستاذة، و اعتقد أن رفضها كان سببه رواسب عنصرية مازال يعاني منها الشعب الالماني حتى على اعلى مستوى علمي و تعليمي منه. و رغم أن الألمان يحسدون الايطاليين على جمال بلادهم و حلاوة لغتهم و طعامة اكلهم الا انهم يحتقرونهم لانهم في نظرهم اناس لا تحب العمل و غير منظمة و في طبعهم النصب و الإجرام، و هذا طبعا غير صحيح. و الالمان ايضا لا يحبون المسلمين و خاصة العرب و الاتراك منهم و اليمين الألماني يريد طرد ملايين الاتراك الذين ولدوا في المانيا و لا يعرفون غيرها بلداً بعد أن ساعد اجدادهم الألمان على الخروج من الدمار الذي جلبوه على انفسهم بإشعالهم نار الحرب العالمية الثانية.
و تذكرت ان زميلتي ادريانا حاولت الاتصال باستاذ الماني آخر من ميونيخ لاشراكه معنا في ابحاث القساطر و لكنه كان ينكر نفسه عنا باستمرار.
و بمناسبة المانيا سأحكي لكم هذه القصة القصيرة:
في احد الايام قال لي اخو زوجتي "موريتزو"، و الذي كان يعمل في مصانع شركة "ديلونجي" الايطالية العالمية الشهيرة المنتجة للادوات المنزلية الكهربية، ان هناك مهندس الماني من اصل مصري جاء لإيطاليا لزيارة مصانعهم. و قال أن هذا الشخص عندما عرف أن زوج اخته مصري طلب أن يقابلني و عزمني على العشاء معه في فندقه في تريفيزو. و قال لي موريتزو أن هذا الشخص المصري هو مهندس كبير و مدير مهم في شركته.
ذهبت في الميعاد المحدد و قابلني الباشمهندس احمد في بهو الفندق ذو الخمسة نجوم و جلسنا في صالونه. عرفته بنفسي و عرفني بنفسه. كان على ما يبدو في منتصف الستينيات من عمره. و كان يلبس ملابس مهندمة و مظهره مظهر من يحوز على منصب اجتماعي محترم و على مستوى عال من الثقافة.
أحمد كان شاب مصرياً من المنيل ، تخرج من كلية هندسة القاهرة و بعد تخرجه قرر الالتحاق بالجيش المصري كضابط مهندس. و فعلاً أتم تدريبه العسكري و انخرط في سلاح المهندسين. و عندما اشتعلت الأزمة التي سبقت حرب ١٩٦٧ ارسل مع فرقته الى سيناء.
حكي لي انهم لم يحاربوا شيئًا يذكر قبل أن يصدر لهم الامر بالإنسحاب الى غرب القناة و لم يكونوا على علم لماذا. و بينما هم في طريق العودة الغير منتظمة وقع في أسر العدو الاسرائيلي. وضعوهم في معسكر قذر للاسرى في سيناء، و اذاقوهم الوان من الاذلال و الاهانة من الضرب بالشلاليت و البصق على الوجه و الضرب على القفا و غيره، و قال بكيت كثيرًا لأننا كنا نهان على ارض بلادنا. و بعد اسبوع من العذاب أخذوهم الى داخل إسرائيل و بعد استجوابهم عرفوا انه مهندس فسألوه عن تفاصيل التحضيرات العسكرية للجيش المصري فرفض و تعرض للضرب و الاهانة و لكنه لم يدلي لهم بشئ يذكر.
و بعد حوالي شهر من التعذيب، فجأة تغيرت معاملتهم له و قال له أحد الضباط انهم لا يهمهم الآن معرفة الإمكانيات العسكرية للجيش المصري لأنه على حسب ما كانوا يقولون له "قد دمر تماماً". و مع تغير المعاملة أخذوه في جولة سياحية في كل إسرائيل ليرونه مدى جمال و تقدم و تحضر "بلادهم". و كان يكتم غيظه و يجاريهم على مضض.
و في النهاية قالوا له انهم يريدونه أن يتعاون معهم بعد عودته لمصر، و أن يصبح جاسوساً لإسرائيل، فقال انه لن يفعل ذلك أبداً. قالوا له فكر في الامر واعطوه عنوانًا في اليونان اذا غير رأيه و اراد الاتصال بهم.
و عاد لمصر، بعد حوالي ستة أشهر، في اتفاقية تبادل للأسرى توسط فيها الصليب الاحمر الدولي.
و كانت المفاجأة الكبرى ان بمجرد وصوله لغرب القناة تم اعتقاله بواسطة المخابرات الحربية المصرية. و بدلاً من استقبال ودي قوبل بإستجواب مشدد لكونهم شكوا في انه اصبح جاسوساً للعدو، كما حدث مع آخرين. قال لهم كل ما يعرف و كل ما رأى في إسرائيل بالتفصيل. و لكنه ظل في المعتقل حوالي ستة أشهر و لما لم يجدوا ما يدينه و ثبتت براءته اطلق سراحه و لكنه سرح من الخدمة.
و اصبح بلا عمل و لم يجد أي وظيفة فقرر الهجرة لالمانيا، و في أواخر الستينات كانت المانيا تحتاج لمهندسين من نوعه. سافر الى ميونيخ و هناك وجد عملا في احدى المصانع و بدأ كموظف بسيط. و تعرف على عاملة المانية بسيطة مثله و احبها و تزوجا. و كان اهلها غاضبين جداً من هذا الزواج و قاطعوها، و حتى اصدقاؤها قاطعوهم ، فسكنا في شقة صغيرة على اطراف ميونيخ ، و لم يكن يزورهم احد. حتى الجيران كان غاضبين من أن المانية تتزوج من عربي مسلم و تعيش في نفس عمارتهم ، بل و كانوا يكتبون على باب شقتهم عبارات عنصرية و شتائم و يرسمون رسومات مهينة لهما و يلقون القمامة امام باب شقتهما.
و رغم كل هذا نجح أحمد في التقدم في عمله و ترقى في منصبه لحاجة الشركة له و تدرج حتى وصل لمراكز المديرين. و سعد بحياته الى حين لكن زوجته لم تنجب، و بعد عدد قليل من السنوات جاءت اليه لتقول انها تريد الطلاق و انها لم تعد تتحمل العيش معه بدون حياة اجتماعية ، و انها حقيقةً تخجل من انها زوجة عربي مسلم ، و ان حبهما و زواجهما كان نزوة شباب و خطأ كبير، و انها في النهاية تعرفت على رجل ألماني تخرج برفقته و انها تشعر معه بالسعادة و انها تريد العيش معه.
لم يجد أحمد بُدًا عن الطلاق.
و سألته هل تزوجت بعدها، قال :"لقد عشت مثلهم، أي مثل الالمان، اصاحب احدى السيدات، و قد احبها، و نتمتع معا بالسفر و الفسحة و السهرات ، ثم كلٌ على بيته. و قد غيرت الكثير منهن و عشت حياتي بالطول و العرض، و لكن ها أنا ذا قريب من الخروج على المعاش و اعيش وحيدًا و لم أعد جذابًا للنساء و ليس لي حتى رغبة فيهن. اخاف من الوحدة و احس بوطأة قربها عندما تمر الايام بدون أن اكلم احداً و لا يسأل عليّ انسان و اتصور أن اموت يوماً و لا يشعر بموتي أحد و اظل في شقتي حتى يتحلل جسدي و يكلم الجيران الشرطة بسبب رائحة العفن". قال هذا و ترقرقت عيناه بالدموع. قلت له :"لماذا لا تعود الى مصر، و لماذا لا تتزوج مصرية من سنك تونّسوا بعض؟". قال :" اهلي كلهم ماتوا في مصر و لا اعرف هل سأجد اصدقاء زمان ام لا ، و بعد ثلاثين سنة في المانيا قد لا أستطيع العيش في مصر، بالإضافة انه ليس لي تأمين صحي فيها و لا امتيازات اجتماعية كالتي أحوز عليها في المانيا، اما عن الزواج فأنا راجل خربان ، مين تتجوزني!!". و هنا فهمت لماذا ينقص عدد افراد الشعب الالماني بسبب عدم الخلفة. انانية الناس تجعلهم يفضلون الاستمتاع بالعيش بلا مسئولية و بأقصى ما يستطيعون من المتع بدون أن يرهقوا انفسهم بأطفال و التزامات عائلية و أحمال اسرية و خلافه. و لكن المشكلة هي من سيدفع معاشاتهم ؟؟؟. انهم الآن يدفعون معاشات من سبقهم ، و لكن لن يكون هناك عدد كافي من الشباب لدفع معاشاتهم عندما يحين الوقت.
تركت الرجل بعد العشاء و انا حزين. صحيح العازب يعيش كالملك و لكنه يموت كالكلب، خاصة و إن كان مهاجراً و بلا اولاد و لا اهل. و تخوفت من أن يكون مصيري مثل مصيره، و اصبح هذا هو رعب حياتي الاكبر.
و في النهاية لم يستطع البروفيسور أن يأذيني في عملي ، و لكن يبدو أنه حذر كل الاساتذة المختصين في مجال علوم دهون الدم في منطقتنا من التعامل معي. حاولت الاتصال باستاذ جامعة تريستا و لكنه رد علي بخشونة انه لا وقت لديه لعمل أي شئ معي. حاولت الاتصال بآخرين و لكن النتيجة كانت واحدة.
انتهت كيتات العوامل الكيميائية التي كان قد ارسلها لي ناكانو مجاناً، و طلبت منه آخرين فقال أن علي أن أدفع ثمنها، و بالطبع لم يكن لديّ أي ممول.
قلت لنفسي :"حان الوقت لأن اكتفي بالأبحاث التي عملتها". لذلك كلمت البروفيسور بانيان في التليفون و الحقيقة أن الرجل بدا لطيفاً معي حتى قبل أن اتحدث معه. قلت له :"بروفيسور بانيان، فلننسى الماضي ، و انا اعتذر اذا كنت قد سببت لك بعض المضايقات ، و لكن انا الآن اقبل و ارحب أن ينتقل الجهاز الياباني الى مستشفى كاستل فرانكو و ان تستعمله جامعة بادوفا، بدون مشاركتي، فأنا قد اكتفيت الآن بما عملته من ابحاث". شكرني الرجل و فرح بقراري. و كلم في نفس اليوم رئيس قسم معامل مستشفى مونتيبللونا و اخبره بما قلته له، و لكن المفاجأة أن رئيس قسم المعامل رفض نقل الجهاز الى كاستل فرانكو رغم أن المستشفيين يتبعان منطقة طبية واحدة.
قال رئيس قسم المعامل المونتيبللوني ان الجهاز هو "بتاعه"، و انه سوف يستخدمه في التحاليل الروتينية ، و كان هذا غير ممكن تكنيكياً بالطبع، أو على الأقل من ناحية فهمي انا. و اصر على رأيه، و اشتكى لطوب الارض من أن الأساتذة الجامعيين يحتقرون أطباء المستشفيات العامة و "يكوشون" على كل حاجة. انا بالطبع حافظت على أن أكون خارج هذا الصراع و اهتممت بعملي السريري فقط، و بدأت لهفة عمل الابحاث الطبية تفارقني ببطء حتى اختفت تمامًا.
و أخيرًا انتهى هذا الصراع بفوز رئيس قسم معامل مونتيبللونا و الذي احتفظ بالجهاز في معامله و لكنه لم يفعل به شيئًا و لا ادري اذا كان هذا الجهاز ما زال موجوداً في مستشفى مونتيبللونا ام رموه في المخلفات.