مذكرات مهاجر مجهول
المصريين بالخارجالجزء الثاني (21)
الغجر
الغجر هم شعوب انتشرت في اسيا و اوروبا و أفريقيا من قديم الزمان. و معظم الغجر في اوربا هم من شعب الروما و خاصة في اوروبا الشرقية و البلقان و منهما ذهبوا الى أوروبا الغربية و اسبانيا. في ايطاليا يسمون "الزنجاري" و في اسبانيا يسمونهم "الجيتاني". و اصلهم غالبا من الهند و شكلهم و لون بشرتهم يؤكد ذلك في نظري، رغم ان بعض الناس يقولون ان اصلهم من ايران او حتى من مصر (و لذلك في الانجليزية يسمونهم "جيبسي" أي من ايجيبت) ، و انا لا اعتقد ذلك. في مصر يسمون "النَوَر" و معرفون بتواجدهم في الموالد و ما شابه ذلك. و كلمة "يا نَوَري" في مصر هي شتيمة معناها "يا حرامي". من يريد أن يعرف أكثر عنهم عليه البحث في المكتبات و في انترنت ، اما انا فسأحكي لكن ما حصل لي معهم.
الغجر يوجدون بأعداد كبيرة في شمال شرق إيطاليا و خاصة في منطقة الفينيتو. يتنقلون دائما و لكن أحياناً يستقرون في معسكرات لهم خارج المدن لسنوات طويلة. يعملون بالتجارة غالبًا و لكن يقومون بسرقات خفيفة او بالشحاذة و أحياناً يشاع انهم يقومون بخطف الاطفال و هذا غير مؤكد، و لكن المؤكد انهم لا يمارسون الدعارة أبداً و هم يغارون على نسائهم بصورة مخيفة. يعيشون دائمآ في عشش او كامبر بالرغم من انهم أغنياء و رجالهم و نساؤهم على السواء عادةً ما يظهرون كميات كبيرة من الحلي الذهبية الغالية الثمن. النساء يلبسن عادةً جلابيب طويلة مميزة اما الرجال فيلبسون ملابس عادية.
يتزوجون من بعضهم دائما و في سن صغيرة و ينجبون الكثير من الأطفال. لا يرسلون اولادهم للمدارس الحكومية و لا يخضعون انفسهم الى اي عرف أو قانون محلي أو دولي و لكنهم يتبعون أعرافهم الخاصة بهم و يحترمون الى درجة التقديس رؤساء عشائرهم. يتكلمون فيما بينهم بلغتهم و يتحدثون بلغة البلد الموجودون فيها بلكنة ظاهرة.
و كان يحدث أن يدخل أحدٌ منهم الى مستشفى كاستل فرانكو او الى مستشفى مونتيبللونا ، و كان في غالب الاحوال ضيفًا ثقيلا على هيئة التمريض و المساعدين و مصدر ازعاج و قلق للاطباء. و اذا كان واحداً منهم محجوز في القسم عندنا كنت تشم في الغرف و الطرقات رائحة غير مستحبة، تشبه رائحة روث الجمال و الغنم و البول الآسن، و هي رائحتهم لانهم لا يستحمون الا نادرًا ، و ملابسهم قذرة و قديمة و مشبعة بخليط من روائح الطعام و الزيوت و العرق المعتق.
و في صباح يوم سبت و كنت الطبيب النائب في عطلة نهاية الاسبوع بقسم الباطنية في مستشفى كاستل فرانكو ، وصلت في الثامنة، و بينما كنت امر بشوراع المدينة الأنيقة في طريقي بسيارتي للمستشفى ، رأيت اعداداً كبيرةً من الغجر، في مجموعات ، نساء و اطفال و رجال، يسيرون جميعًا في اتجاه المستشفى. و صلت لساحة السيارات الواسعة في داخل المستشفى الضخم و ركنت سيارتي و فوجئت بوجود عدد كبير من الغجر يركنون سياراتهم و ينزلون منها و يسيرون في اتجاه المدخل الرئيسي.
سرت انا ايضا في اتجاه المدخل الرئيسي و انا اشم رائحة الغجر المميزة تملأ المكان و صعدت على السلم كعادتي حتى الدور الخامس الذي كان يوجد به قسم الأمراض الباطنية الذي اعمل به. و على السلم كانت هناك افواج من الغجر بين صاعدين و جالسين و نائمين على درجاته. اما على مدخل القسم فكان هناك تجمع كبير منهم.،بدا عليهم الغضب الشديد، و هم يحاولون الدخول بالعافية و يقرعون الباب و الجرس بصورة هستيرية ، و يشتمون موظفي القسم و ممرضاته بأقذع الألفاظ.
و ما ان رأوني حتى اندفع اليّ كبيرهم و هو رجل ضخم في اوائل خمسينات العمر و امسك بخناقي، و كدت أن ادفعه بعيدًا عني و لكني لاحظت ان معه مسدس ضخم يضعه في حزام بنطلون البدلة السوداء التي يلبسها. و لاحظت ان معظم الرجال يحملون مسدسات في أحزمتهم. قال لي و عيناه تبرقان من الغضب:" لازم تسلمهولي". قلت له:"هو مين يا فندم اللي لازم أسلمه لسيادتك؟". قال:"الدكتور الجاهل الفاشل العنصري اللعين اللي مستخبي جوه". طبعا يقصد الطبيب النوبطشي الذي عمل الليلة السابقة.
سألت:" و هو عمل لكم ايه يا فندم؟". رد:"ضيع الراجل، سايبه يموت و بيقول مفيش فايدة و مش عاوز يعمل حاجة لإسعافه". قلت له:"وماذا ستفعلون به اذا اعطيته لكم؟. قال:"هنحجزه عندنا لحد ما يخف رئيس العشيرة، و لو جرى له حاجة هنقطعه حتت". قلت له؛" لا داعي لكل هذا ، ارجو منك تهدئة الموقف و دعني أدخل لأرى ما يمكنني عمله". تركني الرجل على مضض و تحدثت في الميكروفون مع إحدى الممرضات التي فتحت لي الباب ، و دخلت و انا اقاوم عدد منهم يحاولون الدخول معي.
دخلت و وجدت الممرضات في حالة ذهول ، ممرضات الليل الذي مضى لم يعدن لمنازلهن بعد و ممرضات الصباح، و بدأوا جميعًا في اخباري بما حدث. و الذي حدث هو أن رجلاً في الثالثة و الخمسين من عمره و هو أحد كبار عشائر الغجر في شمال إيطاليا قد حجز في حالة غيبوبة في اول ساعات الليل. و رأى الطبيب النوبطشي، و هو أخصائي اعصاب، أن عنده نزيف في المخ و ان حالته متأخرة جدًا و اخبر العائلة انه سيتركه يموت في سلام. طبعًا هذا لم يعجب العائلة و كلموا كل رجال الغجر في شمال إيطاليا الذين توافدوا مع عائلاتهم الى المستشفى من كل حدب و صوب.
و سألتهن:" اين الطبيب؟"، قالوا انه اغلق على نفسه في غرفة الطبيب النوبطشي. خبطت على الباب فرد عليً بصوت مرتعش::"مين؟". قلت له:" انا أشرف". ففتح الباب بسرعة و نظر خلفي للتأكد من عدم وجود أحد، و ادخلني بسرعة و اغلق الباب بالمفتاح. شكرني بحرارة و عمل علامة الصليب على وجهه الشاحب و شكر الله على وصولي. حكى لي ما حدث و عيناه تكاد تخرجان من مقلتيهما من الرعب، فسألته:" هل طلبت عمل أشعة مقطعية؟". قال لا لأن التشخيص كان واضح (نزيف ضخم في المخ) و لا علاج له. قلت له:"لابد و أن نفعل شيء و الا سوف يقتلوننا". و قلت له:"انتظر انت هنا ، و ساخبرك عندما يصبح الموقف هادئًا و يسمح بخروجك آمناً".
خرجت لأفحص المريض فوجدته في حالة غيبوبة تامة فجريت على التليفون و طلبت قسم الأشعة و تحدثت مع الطبيب المناوب هناك و اتفقنا على عمل أشعة مقطعية على المخ فوراً. و نزل المريض بسريره في المصعد الى قسم الاشعة و حوله زفة من الغجر، و عاد مع نفس الزفة الباكية المتوعدة. و كان تقرير الأشعة يؤكد وجود نزيف و تورم مائي في المخ. اعطيته العلاج المناسب في الوريد و طلبت في التليفون قسم جراحة الاعصاب في مستشفى تريفيزو الكبير. أوصوا بنقل المريض بأسرع ما يمكن فطلبت طائرة هليوكوبتر طبية و طلبت من احد اطباء التخدير ان يصحبه الى مستشفى تريفيزو و خرجت لأخبر الجمع الحاشد بما فعلت فأقروا بذلك و بدأوا في الذهاب الى مستشفى تريفيزو . و بعد حوالي نصف ساعة وصلت الطائرة و صاحبت انا بنفسي المريض حتى بابها و تنفست الصعداء عندنا اقلعت و مريضنا ما زال حياً.
و بعد حوالي نصف ساعة خلت المستشفى من الغجر و لكن رائحتهم بقيت عالقة في الاجواء لعدة ايام. ثم صاحبت زميلي المذعور حتى سيارته و خرج من المستشفى بدون مشاكل و كلمته بعد ذلك فقال أنه وصل لمنزله في امان.
و في آخر النهار طلبت قسم جراحة الأعصاب في مستشفى تريفيزو لأستعلم عن المريض فقيل لي انهم اجروا عملية جراحية و شفطوا الدم الذي كان متراكمًا على المخ و أن المريض في العناية المركزة تحت جهاز التنفس الصناعي و يبدو في حالة مستقرة. و عرفت بعد ذلك بأيام أن المريض بقي على قيد الحياة و انه يخضع لعلاج طبيعي مكثف.
بالطبع اخطأ زميلي في تناوله للحالة و تمت محاسبته بعد ذلك خاصة انه كان له سابقة مع مريضة اخرى ضربها بالقلم على وجهها. و هذا يحدث عندما تكون ثقة الطبيب بنفسه اكثر من اللازم و يكون عناده غالبًا على حساب المريض و اهله، و قد يكون هناك ايضا أثر من العنصرية في ذلك الموقف الرهيب.
و سوف احكي لكم في المرة القادمة احداث اخرى حصلت لي مع افراد من هذا الشعب المثير للجدل، الغجر.