نزهة على سطح ورق نعناع

بقلم : أ. د. محمد المليجي 

عندما تزعجك الأخبار حولك انصحك بأن تفعل كما أفعل أنا كثيرًا وهو أن ترحل من هذا الوسط لأي نبات وتتجول بين أوراقه وأزهاره وتذوب مع قطرات المطر لتغوص بين جذوره وكأنك كائن دقيق ولكن بعقلية البشر الفاحصة المتأملة في خلق الله. 

اليوم انصحك بأن تأخذ نفسك وتهبط على ورقة نعناع في رحلة افتراضية تتنزه فيها بين عروقها وتجلس على حافة ثغر من ثغورها لتستمتع بنافورة الماء التى تخرج منها محملة بعطر النعناع. 

ولكن قبل أن تضع قدمك على ورقة النعناع من فضلك اخلع حذاءك فقد يسبب حذاؤك جروحًا لطبقات الشمع الرقيقة على بشرة الورقة. وتذكر أن النعناع يجدد هذا الشمع يوميًا ويبذل مجهودًا كبيرًا لكي يحافظ على سمك الشمع وبريقه لأنه يحميه من الغزاة وحرارة الشمس والأتربة. تذكر أيضًا أن تأخذ معك شمسية فقد تحتاجها للحماية من الشمس أو رزاز الثغور. 

لا تتعجب لهذه السحب الكثيفة من الماء التى تخرج من الثغر الذي أمامك حيث تضخ ورقة النعناع يوميًا ما يزيد عن ضعف وزنها من الماء ولذلك ففدان نعناع يطلق يومًيا فى الهواء ١١-١٥ طن من الماء في عملية نسميها بالنتح. وعلى نفس المنوال فشجرة نخيل واحدة تراها من بعيد تضخ ١٨٠٠ لتر ماء يوميًا على الأقل ونبات ذرة واحد يضخ في يوم حار ٢٠٠ لتر ماء. 

لا تتعجب فهذه حسابات علمية دقيقة استطاع فيها العلماء حساب البخر من كل نبات ووضعوه في جداول لكي نعرف تنوع النباتات في استهلاكها للماء. ولولا بخار الماء المنطلق من النباتات حولنا لأصبح الجو جحيم للبشر. 

وأنت جالس على حافة الثغر تمالك أعصابك ولا تجعل الخوف ينتابك من حركة الإغلاق والفتح للثغر العجيبة والتى تبدوا محيرة للنظر. 

حركة فتح وإغلاق الثغر تتم بحسابات دقيقة للغاية ففى عملية فتح وغلق الثغور تتحكم في النتح حيث يفقد النبات الماء وحيث يمتص ثاني أكسيد الكربون ويطلق الأكسجين. وهي ثلاث عمليات هامة تتوقف عليها حياة النبات بل وحياة البشر. 

مع كل فقد ل ٤٠٠ جزيء ماء  يتم امتصاص جزيء ثاني اكسيد الكربون من الجو وإطلاق جزيء أكسجين. النبات ببساطة شديدة يخلصنا من ثاني أكسيد الكربون الخانق والسام الذي تطرده أنفاسنا وتخرجه المصانع وعوادم السيارات ويصنع لنا منه سكر ومواد رائعة المطعم والفائدة وفواكه وحبوب وزيوت، ويخرج لنا الأكسجين الذي نستنشقه. 

الثلاث عمليات هي البناء الضوئي Photosynthesis والنتح Transpiration والتنفس Respiration. تحدث هذه العمليات الثلاثة أحيانًا في وقت واحد وتحكم شدتها ظروف كثيرة ومتشابكة من ضوء ودرجة حرارة وأحيانًا الظروف الصحية للنبات.  

لذلك فحركة فتح وإغلاق الثغور العجيبة تحكمها هذه الظروف والحسابات المعقدة حتى يوازن النبات بين النتح والبناء والتنفس دون أن يتعرض هو نفسه للجفاف. 

قد تسأل لماذا يستهلك النبات كل هذا الماء ؟ والإجابة هي أن النبات لا يحتفظ بأكثر من 5% من كل هذا الماء المتدفق خلاله ولكن الماء هو الوسط الذي تتم فيه كل العمليات الحيوية بل ويتم من خلاله توزيع الغذاء والعناصر ونواتج البناء الضوئي الكثيرة. الماء هو البحر الذي تتم فيه كل التفاعلات الكيميائية وتسبح فيه كل منتجات الخلايا. 

بقي أن أقول لك معلومة بسيطة وهي أن عدد الخلايا في ورقة النعناع قد يكون بالملايين لأن حجم خلية النبات ما بين 0.01 -0.001 من المليمتر أي أن السنتيمتر الواحد قد يحتوي طوليًا ألف خلية وأن عملية ضخ الماء من الثغر تلعب دورا كبيرا في عملية امتصاص الماء من الشعيرات الجذرية ورفعه إلى سطح ورقة النعناع التى تجلس عند ثغرها. 

لو أردت أن تعرف كيف يسلك الماء طريقه في النبات وما هي الأنابيب والترع والقنوات التى يسلكها وكذلك السدود والصمامات التى تتحكم في مرور الماء وتمنع حدوث فياضانات مدمرة داخل النبات وكذلك اماكن تخزينه في نبات النعناع الذي تجلس فوقه فهو أمر مثير للعجب أيضًا فقد وقد شرحته من قبل في عدد من منشوراتي وسأعيد ما شرحه قريبًا إن شاء الله.  

لا تنس وأنت تترك الثغر وورقة النعناع لتعود إلى مشاكل الدنيا والكورونا وسد إثيوبيا ومرتزقة ليبيا وحرب اليمن أن تاخذ حذاءك معك فوجوده على ورقة النعناع غير لائق.