مذكرات مجهول(6)
بقلم : د.أشرف يعقوب
وبعد مقابلة لطيفة مع البروفيسور ماجريني المشرف على الدكتوراه، ذهبت لوحدة القسطرة القلبية حيث قضيت أول عام من دراستي هناك، وفي هذه الوحدة سألني أحد الأطباء ، و هو أخصائي أشعة تدخلية، إذا ما كنت قد وصلت من مصر بالقطار؟!وهنا ادركت لأول مرة أن معلوماتهم عن مصر ضعيفة جدًا وأن هذا الأخ أكيد كان ساقط في الجغرافيا.
وكانت رئيسة هذه الوحدة سيدة في حوالي الخمسين من العمر، أنيقة، وعصبية، متصابية وتلبس ملابس قصيرة جدا، والحق يقال كانت جميلة ورشيقة رغم سنها. كانت أرملة صاحب مصنع كبير لماركة لعب أطفال شهيرة. فرحت بكوني مصري وأخبرني أنها تحب مصر وتعرفها جيدًا وأنها تكاد تكون ربيبة أبو رجيلة، رجل الأعمال المصري الشهير، والذي كان صاحب شركة الحافلات المعروفة في القاهرة. هرب من مصر بعد تأميمات جمال عبدالناصر وعاش في ميلانو مع زوجته الايطالية حتى أدركته الوفاة.
قالت لي هذه الدكتورة أنها تذهب لمصر كثيرًا في رحلات عمل وترفيه، وأنها تعرف الرئيس مبارك شخصيًا، وتعرف أنه تزوج سرًا من سيدة من الإسماعيلية في فترة ما، وقالت عموما هي كانت تفضل أن يأتيها طالب دكتوراه من تايلاند لأنها تحتاج لتدليك "تايلاندي"!. عزمتني بعد ذلك في بيتها الكائن في شارع مونتي نابوليونه أشيك شوارع ميلانو، شقة كبيرة جدا وأثاثها فخم جدا، و ذلك مع كل طاقم العمل بوحدة القسطرة. وهناك قابلت القنصل المصري في ميلانو والذي كان صديقًا مقربًا من هذه الدكتورة.
ودعاني القنصل في يوم آخر لبيته وأخبرني أنه مريض بالسرطان وفعلًا سمعت بوفاته بعد ذلك بشهور قليلة. وحضرت بعد ذلك بشهور حفل ٢٣ يوليو في القنصلية المصرية والذي انتهى متأخرا واكتشفت أن آخر أوتوبيس يمكنني من الوصول للضاحية التي أقيم قد رحل، لذلك اضطررت للمشي ١٤ كيلومتر تحت المطر المستمر ووصلت لشقتي بعد ساعات وحالي كحال من نجا من الغرق.
واندلعت حرب الخليج الأولى في يوم ١٧ يناير ١٩٩١ هاجم التحالف الدولي الجيش العراقي في الكويت، وكاد المعلق التيليفزيوني الإيطالي "اميليو فيدي" أن يسقط على الأرض بعد ان انتفض من على كرسيه وهم يخبرونه ببدء الهجوم. هذا المعلق أصبح بعد ذلك من أشد مناصري بيرلوسكوني ، وأخيرًا حكم عليه بالسجن المنزلي بتهمة تسهيل دعارة الفتيات القصر.
وحدث أن دعينا بعض الأصدقاء للعشاء بمنزلنا و كان معهم شاب لا أعرفه. بدأوا في الكلام عن الحرب والاسلام والعرب، فلم أشارك لأني كنت أتجنب التحدث في هذه المواضيع أثناء الحرب، ولكن...
هذا الشاب بدأ في الكلام عن العرب و الإسلام وقال أن مشكلة العرب و المسلمين هي أنهم بلا "ثقافة". يعني أراد أن يقول أن العرب و لمسلمين ليس لديهم ثقافة محددة. ولم استطع السكوت...
قلت له محتدا " لا أصدق أن يكون في العالم من هو أجهل منك" . المسلمون والعرب لهم ثقافة شديدة الاتساع، بل هي من أهم الثقافات البشرية، و النتاج الثقافي العربي عظيم الضخامة ، وتأثير هذه الثقافة على العالم كله تاثير جبار عميق ومفيد. ثم طردته من بيتي.
ولكن هذا الشاب كان معذورا في الحقيقة، كان يمثل الغالبية من المثقفين الإيطاليين، والأوربيين عمومًا، فهم لا يعرفون عن العرب إلا قشور كلها معلومات خاطئة وسيئة. وتقابلت بعد ذلك مع فتاة إيطالية تدرس اللغة العربية في الجامعة والتي قالت لي "انها مندهشة ومنبهرة بضخامة وعظمة الثقافة العربية، والتي خبئت عن الرأي العام الأوربي بتعمد خبيث". كانت تتهم الإعلام والصحافة، بل و الكنيسة، في ذلك.
المدن العربية، الحديثة، كانت صورها في نشرات الأخبار مليئة بالجمال والخيم في صحراء مترامية، وكذلك كانت تبدو الشعوب العربية في الأفلام الحديثة، والتي تصور الحاضر العربي الحالي، في ثياب مهترئة وقذرة وتعيش في خيم أو بيوت بدائية مليئة بالذباب و الثعابين. كان الإنسان العربي، ومازال، يمثل في صورة شخص عصبي، سريع الغضب، مقزز، و مستعد دائما للاحتيال على الناس و الجري وراء النساء الآتي يظهرن الاحتقار له والقرف منه.
وكان صديقي يوسف، السكندري، هو الوحيد الذي يستطيع في المصنع الذي كان يعمل فيه بالقرب من تريفيزو، في الحصول على ٤ أسابيع اجازة سنوية لأنه كان يقول أنه يحتاج لأسبوع في الوصول إلى الإسكندرية من القاهرة التي يصلها بالطائرة، وذلك لأنه كان عليه أن يستأجر جملا والعثور على جمل صعب في موسم الإجازات. ثم كان عليه أن يقطع المسافة على ظهر الجمل من القاهرة الإسكندرية في ثلاثة أيام.
وكانوا يصدقونه... .ولنا لقاء قريب.
