خيال الفنان .. الرسول يهدي مبدعا بُرْدَتَه
بهجت العبيدي المصريين بالخارج
تقاس حضارة ورقي الأمم بما أنتجته قريحة أبنائها من فنون، فلم يبق من الحضارات على مر التاريخ إلا تلك التي تركت آثارا فنية، مكتوبة أو مصورة.
وكم من أممٍ لم نعلم عنها شيئا، وذلك للا شيء سوى أنها لم تبدع ما يستحق البقاء، أو تتناقله الأجيال: جيلٌ بعد جيل.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن الشعر ديوان العرب، لأنه يذكر تاريخ القبائل العربية، ولأنه يعكس لنا حياة العرب قبل الإسلام، كما يعكس كذلك حياتهم وانتصاراتهم، وصراعاتهم بعد الإسلام.
اقرأ أيضاً
- وفاة الفنان السوداني «حمد الريح»
- رئيس الوزراء الإثيوبي أعلم بمكان تواجد قادة تيغراي الفارين
- مطربون ولكن .....بقلم رشا لاشين
- عاجل : الجيش الإثيوبي يعلن دخول عاصمة إقليم تيغراي
- الزمالك الأخطر.. معلق رياضي: كتيبة الأبيض قوية.. وغياب ديانج مؤثر
- السعودية : تكثيف الاستعداد لسقوط الأمطار في المسجد الحرام
- مصرع ضابط وجندى بسلاح الجو الإسرائيلى فى تحطم مروحية بالنقب
- ”البيت الأبيض”: ترامب لم يصدر أوامر بعدم التواصل مع فريق بايدن
- وفاة الفنان فايق عزب بعد صراع مع المرض عن عمر يناهز 77 عاما
- رويترز :وفد بحريني رسمي يصل تل أبيب
- الدكروري يكتب عن ”صلح الحديبية”
- رامي علم الدين يكتب ”الحرب الخاسرة”
والفنان ضمير الأمة، هو من يستشرف الغد، ومن يرسل الإشارات واضحة مرة، ومشفرة أخرى، محذرا ومستنهضا الأمة في حاضرها ومستقبلها.
ولو عدنا إلى تاريخنا لوجدنا صراخ الشعراء في كل الملمات التي حاقت بالأمة، ولوجدناهم أول من حذر واستنهض، وذلك لكون الفنان أكثر حسا وأفضل حدسا نتيجة لذلك السر الذي أودعه الله فيه وهو الموهبة.
لن يستطيع كائن من كان أن يحد من خيال المبدع، ربما ينجح البعض في إرهاب الفنان، في أن يعبر عن فكره في العلن: في لوحة فنية أو قصيدة شعرية أو رواية أدبية أو في نحت، ولكن لا أحد يمتلك القدرة على إيقاف العقل من التفكير ولا الخيال من التحليق، ربما ينجح الإرهاب الفكري في عدم ظهور العمل الفني للنور، ولو لحين، والذي أول ما يكون ضرره سيكون على المجتمع أو الأمة التي تسلك هذا السلوك لأنها بذلك تكون قد قتلت " زرقاء اليمامة" !! التي تنبهها، وتحذرها من الخطر، كما تستشرف لها مستقبلها.
وما نهضت أمةٌ من الأمم إلا في تمتع مجتمعها في المطلق بالحرية ومبدعوها على وجه الخصوص بتلك الحرية.
إن التجربة الفنية عملا إبداعيا خاصا للغاية، تجربة تمتلك على المبدع كل كيانه، لا يستطيع منها فكاكا، هو أشبه بالراعي الذي تطارده شمس الظهيرة في الصحراء، ولا مناص منها إلا أن يخضع لها مستسلما حتى تخرج في عملٍ فنيٍّ، إنها حالة أشبه ما تكون بحالة المخاض لأم عانت آلام حمل " وهناً على وهن" حتى وضعت طفلها واحتضنته بعينيها راسمة ابتسامة على الشفتين الذابلتين لتغمض عينيها المتعبتين، مستسلمة لنوم تريد قسطا من الراحة.
تلك التجربة الفنية الشاقة للغاية قدَّرَها الرسول ﷺ في تلك القصيدة الشهيرة لكعب بن زهير، حيث كانت حياته مهددة بسبب عدائه للدعوة الوليدة والدولة الناشئة والتي سلط لسانه " الموهوب!" لينال منها ومن رسولها ﷺ فأهدر دمه، ففارقته سعادته، فعاش تلك التجربة الفنية التي ملكت عليه جوانحه، وفارق بسببها النومُ جفنيه، فذهب جالسا بين يدي الرسول ﷺ معتذرا بلاميته الشهيرة " بانت سعادُ " التي وصف فيها تلك المحبوبة التي فارقته بِدءاً من صوتها الذي هو أَغَنُّ ومن طرفها المكحول، وقوامها اﻷهيف وعُجُزُها الكبير وأسنانها الجميلة، وريقها العذب حين قال:-
بانَتْ سُعادُ فَقَلْبي اليَوْمَ مَتْبولُ مُتَيَّمٌ إثْرَها لم يُفْدَ مَكْبولُ
وَمَا سُعَادُ غَداةَ البَيْن إِذْ رَحَلوا إِلاّ أَغَنُّ غضيضُ الطَّرْفِ مَكْحُولُ
هَيْفاءُ مُقْبِلَةً عَجْزاءُ مُدْبِرَةً لا يُشْتَكى قِصَرٌ مِنها ولا طُولُ
تجْلُو عَوارِضَ ذي ظَلْمٍ إذا ابْتَسَمَتْ كأنَّهُ مُنْهَلٌ بالرَّاحِ مَعْلُولُ
وهو وصف كله حسي، يعاقب عليه - كم يقولون في عصرنا - القانون، ولكن الرسول ﷺ فرق بين التجربتين: الحقيقة والفنية التي كابدها شاعرٌ بحجم كعب بن زهير، والذي ما أن وصل لقوله؛-
أنبِئْتُ أنَّ رَسُولَ اللهِ أَوْعَدَني والعَفْوُ عَنْدَ رَسُولِ اللهِ مَأْمُولُ حتى قال ﷺ لقد عفونا عنك، بل لم يكتف ﷺ بالعفو، لكنه أهداه بردته التي اشتراها منه بعد ذلك معاوية بن أبي سفيان ليتوارثها الخلفاء، فيلبسونها في الأعياد، حتى اجتاح المغول بغداد ونهبوها، فأحرقوا البردة، ويقال أنها لم تحرق ولم تزل موجودة باسطنبول بتركيا.
إذاً الرسول ﷺ - الذي لا شك أنه يرفض تجربة حقيقة بهذه التفاصيل الحسية، بل يعاقب عليها - قد قدَّر وثمَّن التجربة الفنية، بل وكافأ مبدعها.