التبريرات القدرية والمسئوليات البشرية
م اشرف الكرم المصريين بالخارجتأخر الطبيب عن الموعد، وترك مرضاه ولم يعتذر لدرجة أنني لم استطع الانتظار أكثر، فاضطررت الى الخروج لارتباطي بمواعيد أخرى هامة، وتسبب إلغاء موعدي مع الطبيب في ضرر طبي لحق بي لتأخر العلاج.
وحين اشتكيت لصديقي، ملوحا بأنني سأشتكي الطبيب لدى إدارة المستشفى بادرني بقوله: "قول الحمد لله، متعرفش كان هيحصل إيه لو جاء الدكتور في موعده وكشفت، كدا أحسن"،، ! صمتُ لردهة وقلت: وهل نناقش هنا تبرير القدر أم مسئولية البشر، ؟ فنظر إليّ ولم يجبني، لكنني قرأت إجابته بين سطور نظراته قبل أن يتركني وينصرف. وفي موقفٍ آخر، تقاعس حارس العمارة عن صلب مهمته في شيء ما، فواجهته وتحريت لأجد تقصيره لا حد له ومتكرر، وأنه أضر بالسكان أبلغ الضرر، فقلت: يجب أن نبدل هذا الحارس، فانبرى صديقي قائلًا: "بلاش تقطع رزقه" سننبهه وكفى،، ! فسألته نفس سؤالي السابق، هل نناقش الرزق المكتوب بالقدر أم نقوِّم تقصير البشر،؟ فلم يرد أيضا. وأنا لا أعتب على صديقي ألبتة، إذ أنه يحاول أن يهديء من غضبي على الطبيب الذي أضر بي، أو على الحارس في شخصه كإنسان، وإلى هنا فلا تثريب على صديقي في ذلك، وحملت ما حدث على مفهوم أننا شعبٌ طيب، لا نرتضي الإضرار بأحد عن طريق شكوى قد تؤدي إلى أذى أو بطرد أحدٍ من عمله لما يسببه ذلك من عنت حتى لو كان مقصرًا. لكن، على الصعيد الآخر، ومع انتشار فكر صديقي هذا في المجتمع المصري وتغلغل عقليته في الفكر الجمعي بالمجتمع، سنصل إلى نتائج سيئة تضر بالمجتمع ذاته والناس.
إذ أن تلك التبريرات التي تخلط بين مفهوم الاستسلام لأفعال القدر ومفهوم المحاسبة على مسئوليات البشر، هي خلط لا أساس له من الصحة، لأن الاستسلام للقدر بخيره وشره يكون في الأحداث القدرية التي لا يد للبشر فيها ولا مسئولية، في حين أن الأحداث التي تقع تحت مسئولية الإنسان ليست قدرية بشكل كامل لتخرج عن إطار المسئولية -رغم أنها لا تحدث إلا بإرادة الله- بمعنى أنها تقع تحت عنوان المسئولية والمحاسبة على التقصير أو الإثابة على الإتقان إن وجد. ثم إن قضية الرزق محسومة، ويظل الرزق بيد الرزاق لا يد لأحدٍ في ذلك، فإذا ما قصّر أحدٌ في عمله فلا غضاضة في أن يُفصَل منه، لأسبابٍ عدة، أولها أن يكون عبرةً لغيره، وثانيها ليكون ذلك له تقويمًا، وثالثها إفساح المجال للجيدين ليجدوا أماكن العمل التي يشغلها هؤلاء المتقاعسون عن المسئولية.
إن تغيير النظرة المجتمعية للمسئوليات البشرية في العمل، أمر هام حيث يجب أن تنفصل تلك النظرة عن التبريرات القدرية التي لا مسئولية للبشر فيها، كما أن قضية الرزق ليست بيد أحد حتى "يقطع" أحدنا رزق المقصر إذا قصّر. إن مجتمعًا يصبو الى مستقبلٍ جديد ونهضةٍ حديثه، لابد له من أن يركز على رفع وعي الإنسان وترقية مفاهيمه في مسألة المسئولية والحساب، وتوضيح الحساب على المسئولية البشرية دون الارتكان على التبريرات القدرية لنصل بالمجتمع إلى أن أفراده قادرون على إدارة النهضة الحالية منقطعة النظير.