قطرات معجزات

بقلم : أ.د. محمد المليجي 

بعد توقف الأمطار أمس وعودة الهدوء بعد سيمفونية رعد وبرق لم تطول كثيرًا خرجت جارتنا لترفه عن كلبتها الرقيقة التى لا يزيد حجمها عن صندوق ورق كلنكس والتى أفزعها أصوات البرق والرعد فبدت حزينة خائفة تحتاج إلى نزهة تزيل عنها الكئابة والخوف كما تقول صاحبتها. 

خرجت أنا أيضًا لقضاء بعض الاحتياجات وكانت أوراق الأشجار الصفراء الشاحبة قد أسقطتها الرياح على الأرض وفرشتها بما يشبه الدنانير المبعثرة تحت ضوء الشمس. اقتربت من تلك الأوراق المسجات على بلاط الممر وإذ بها مغطاة بقطرات من ماء المطر تعكس الضوء وصور الأشياء حولها. وكذلك كانت كل أوراق العشب الحي حيث تتدلي منها قطرات الماء كالثريات بأحجام مختلفة. 

تذكرت التأمل في مثل هذه القطرات وما قدم للعلم وللبشرية، ففى يوم من الأيام استخدم رجل يعمل بتجارة التحف عدسة صغيرة ونظر في قطرة مطر انزلقت من سطح ورقة نبات لتسقط على يده وإذ هي عامرة بمخلوقات صغيرة تركد وتلهو في قطرة الماء هذه، جري نحو البحيرة الصغيرة التى أمامه وأخذ منها قطرة وفحصها وإذ بها تعج بهذه الكائنات الدقيقة التى لم يعرفها البشر من قبل والتى سماها حينها بالحيوانات الصغيرة Animacolus هذا الرجل هو انتوني فان ليفنهوك الهولندي الذي اكتشف الكائنات الدقيقة Microorganisms في نهاية القرن الثامن عشر وظل أكثر من ثلاثون عامًا يحاول أن يقنع العلماء بوجودها. 

هي نفس القطرات التى فحصها أيضًا أحد العلماء واسمه لويس باستير وشاهد أن بها نوعين من المخلوقات غريبة السلوك بعضها يسبح ويرتع ويلعب عند حافة القطرة وبعضها يغوص بعيدًا عن الحافة ويرسى في القاع ولا يقترب من الحافة أبدًا. كان هذا اكتشاف البكتريات الهوائية Aerobics التى لا تعيش وتتكاثر إلا في وجود الأكسجين وهي تلك البكتيريا التى تتجمع عند حافة القطرة بينما توجد بكتيريات تتكاثر في ظروف لا هوائية Anaerobic في غياب الاكسجين كتلك التى تعيش في أمعائنا. 

تأملت في هذه القطرات وتذكرت أنها السبب في انتشار بعض الامراض النباتية وتعتبر العامل المحدد له كمعظم الأمراض البكتيرية التى تنتشر برزاز المطر والبياض الزغبيDowny mildews واللفحة المتأخرة Late blight أوالفيتوفثورا فلولا هذه البحيرات الصغيرة لما تكونت الجراثيم السابحة وانتشرت هذه الفطريات كالحريق في النباتات. 

ولذلك فأفضل طريقة لمكافحة هذه الأمراض أن لا نجعل هذه القطرات تستمر على سطح الورقة لأكثر من ٤ ساعات بالتهوية الجيدة وخف النباتات وعدم غلق الصوب في المساء حتى لا تتكون هذه القطرات على الأوراق وتتساقط من سقف البيت المحمي. والبديل هو أن تسمم هذه البحيرات الصغيره بمبيد وقائي يمنع إنبات الجراثيم. 

نظرت لشكل القطرة وتأملت فيه وتذكرت ما نسميه بالتوتر السطحي وكتبه ونظرياته وتركيب الماء نفسه وما يحتويه من كهرباء وخواص عجيبة تجعل جزيئاته متماسكة كحبات العقد فلا تنفرط إلا بقوة خارجية. وتذكرت أن النبات نفسه قد تهيأ بغطاء من الشمع يجعل قطرات الماء تتكور وتتدحرج سريعًا من سطح الورقة لأن وجودها على الأوراق غير مرغوب فيه بل مكانها هناك عند الجذور. 

تذكرت أيضًا أن أصناف القمح الأكثر مقاومة للصدأ تتميز بطبقة شمع سميكة على أوراقها تجعل قطرات الماء تتكور بشدة نتيجة التوتر السطحي الناتج وتتدحرج بعيدًا قبل ان تعطي الفرصة لإنبات جراثيم الصدأ. 

سبحان الله الذي خلق كل شيء وقدره وجعل التأمل في قطرة ماء سببًا في الكشف عن خلق مازلنا لا نعرف عنه إلا القليل وقدم لنا عشرات من قوانين الطبيعة الفيزيائية التى تحكم مسار العديد من أسرار الكون .