في ذكرى الهجرة النبوية "الرسول الأعظم ومكارم الأخلاق"

كتب : د.ماهر جبر 
(وكانت خطواته صلى الله عليه وسلم في هجرته تخط في الأرض، ومعانيها تخط في التاريخ) مصطفى صادق الرافعي.
كانت الهجرة من مكة الى المدينة يوم الجمعة 27 من شهر صفر في العام الرابع عشر من البعثة النبوية، الموافق السادس عشر من شهر سبتمبر عام ستمائة وثلاثة وعشرون ميلادية، لم تكن هجرته عليه الصلاة والسلام هجرة مكانية فقط، كما لم تكن خوفاً من مشركي قريش، إنما كانت هجرة من الظلام الى النور، ظلام الشرك والذنوب والمعاصي الى نور اليقين والتوحيد وتثبيت مكارم الأخلاق، والبعد عن كل ما هو رذيلة والتمسك واللجوء لكل ما هو فضيلة، أي هجرة كل ما نهى الله عنه، وإتيان كل ما أمر به، ألم يقل جعفر بن أبي طالب للنجاشي ( كنا قوم جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام،............فبعث الله فينا رسولاً منا نعرف نسبه فدعانا الى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش، وقول الزور وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام).

هل هذا رجل لا يُتبع، وهل هناك أفضل مما يدعو اليه، أهناك أفضل من صدق الحديث، والبعد عن الفواحش، أهناك أفضل من التطهر لكل صلاة، وأن يكون الإلاه الذي نعبده واحد لا شريك له.
إذاً لم تكن الهجرة  لخوف من أذى قريش، إنما كانت في المقام الأول تلبية وإستجابة وطاعة لنداءُ وأمر من السماء لمحمد صلى الله عليه وسلم كي يستعد لخروج الدعوة من إطارها الخفي ونطاق سريتها الى مرحلة الجهر بها، للإنتقال من الفوضى والهمجية في مكة الى المدينة حيث يضع صلى الله عليه وسلم أسس دولة الإسلام فيها، دولة قائدها محمد صلى الله عليه وسلم، وشعبها الصحابة المهاجرين والأنصار رضوان الله عليهم أجمعين، وأقليمها هو أرض الحرتين أرض يثرب الطاهرة، ودستورها آي الذكر الحكيم.

نعم كانت هجرة من الكره والحقد والطغيان الى المحبة والتآلف والإخاء، رحلة الى مكارم الأخلاق تصديقاً لقوله صلى الله عليه وسلم (إنما بُعثت لأُتمم مكارم الأخلاق)، وقوله تعالى ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).

فإن كان مولده صلى الله عليه وسلم نوراً جاء ليقُض مضجع يهود، ويُسفه أحلام سادة قريش وكبرائها، فإن هجرته جاءت لينتشر هذا النور في مشارق الأرض ومغاربها، فيضيء الكون بعد ظلام دام طويلاً، ولتكون الدعوة المحمدية رسول الحق والخير والجمال، ذاك أن صاحبها هو أجمل وأفضل وأعدل وخير من خطت به قدمان على أرض الله، بل هو أفضل من خلق الله منذ بداية الخليقة وحتى قيام الساعة .  

خرج الصادق الأمين متخفياً ومر من بين يدي القوم اللذين أغشى الله أبصارهم ( وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون)، نثر صلى الله عليه وسلم التراب في أعينهم وفوق رؤوسهم ومر من بين أيديهم فلم يروه، بينما نام إمام المتقين فتى قريش الأغَر مكانه على صغر سنه ضارباً أروع أمثلة التضحية والفداء، لا لشيء إلا ليرد ودائع المشركين واليهود التي أودعوها عند الصادق الأمين كما أطلقوا عليه، إذاً لماذا لم يصدقوه ويتبعوه!

خرج الرسول مهاجراً مع صديقه أبو بكر الذي ترك ماله وأولاده، وقال له بأبي أنت وأمي يا رسول الله، أبو بكر الذي صدقه في كل شيء حتى لُقب بالصديق، خرج معه ضارباً أروع الأمثلة في الإيثار وإنكار الذات، حتى كاد الكفار يلحقون بهم، فكان الملاذ الوحيد لهم الغار( إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه اللذين كفروا ثاني إثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا).

ومن صور الإيثار التي نتعلمها من الهجرة ما حدث في الغار من خوف الصديق على محمد صلى الله عليه وسلم، فلم يكن خائفاً على نفسه، وإنما خوفه كله على النبي كونه أمة وحده، كما يثبت ذلك الحب والإيثار كذلك ما فعله أبو بكر عندما لدغه ثعبان والرسول صلى الله عليه وسلم نائم متوسداً ركبتيه، لم يحرك الصديق قدمه كي يبعد الثعبان خوفاً من إيقاظ النبي من نومه، أي رجال هؤلاء، وأي صدق في المشاعر هذا، لذا أستحق أن يلقبه النبي بالصديق لأنه كان يُصدق كل ما يقوله النبي ويَصدُقهُ أيضاً في كل شيء.

كما تتضح صور التضحية كذلك في قيام أسماء بنت أبي بكر، وعبدالله بن أُريقط بتوصيل الطعام والماء للنبي والصديق في الغار كل يوم معرضين أنفسهم للهلاك في مفاوز صحاري مكة ذات الرمال الملتهبة، ناهيك عن تتبع الكفار ومراقبتهم لكل من له صلة بمحمد، غير أن من أهم الصور المضيئة في الهجرة تلك التي تجلت فيما حدث من سراقة بن مالك المكلف من قريش بتقصي أثر الرسول وصاحبه، والطامع في عطاء قريش في حال اللحاق بهم، فما كاد يقترب منهم سراقة، والصديق يقول لقد أقترب يارسول الله، لكن النبي يطمئنه أن الله لن يتركنا، فتغوص أقدام فرس سراقة في الرمال مرة تلو الأخرى ولا يستطيع الإقتراب أكثر، فيطلب من الرسول الدعاء له على ألا يخبر قريش خبرهم فدعا له قائلاً (اللهم ألبس سراقة بن مالك سواري كسرى ومنطقته وتاجه)، وتحقق ذلك بالفعل زمن عمر بن الخطاب .

إلا أن أعظم تلك الدروس المستفادة من الهجرة مطلقاً فهي بلا شك ماتعلمناه من مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم، فقد تعرض النبي الأعظم لأذى كثير من قريش وسفهائها، فأغروا عليه غلمانهم يرمونه بالحجارة، واتهموه بالجنون، وقول الشعر ونقلوا على لسانه الكثير من الأكاذيب، فحاصروه وأصحابه في شعاب مكة، وتعرض لإبتلاءات كثيرة وفتن أكثر، لكنه قابل كل ذلك بالحلم والصبر والجلد، وما زال يردد اللهم إغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، لعل الله يُخرج من ظهورهم من يشهد ألا إلاه إلا الله. 

وبعد فتح مكة وقف صناديد قريش والنبي يهدم الأصنام والأوثان، ويطوف بالكعبة قائلاً:. جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا، ثم نظر إليهم قائلاً ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا خيراً أخُ كريم وإبن أخُ كريم، قال إذهبوا فأنتم الطلقاء، كل هذا التسامح والكرم يا رسول الله، أي حلم هذا، وأي رحمة هذه، وأي مكارم للأخلاق أكثر من ذلك، فكانت سماحته صلى الله عليه وسلم سبباً في دخولهم في دين الله أفواجاً، لكن لا عجب ألم يقل لك رب العزة، وإنك لعلى خلق عظيم.

حقاً لقد أنقذ محمد البشرية من ذل العبودية والإنكسار والمهانة لغير الله، الى عز الإسلام ومهابته، فأصبح الناس جميعاً عباداً لله بعد أن كانوا عبيداً لعباد الله، أنقذهم من الضلال والشرك وأرشدهم الى سبيل السعادة في الدنيا والآخرة، نعم إنه محمد رسول السعادة لنا جميعاً، اللهم إسقنا من حوضه شربة لا نظمأ بعدها، واجعلنا رفقائه في الجنة يوم أن يكون شفيعنا، ويقول كل منا نفسي نفسي، إلا أنت يارسول الله تقول أُمتي أُمتي، فلنتعظ ونلتمس الدروس والعبر من الهجرة النبوية الكريمة وأهمها على الإطلاق إيثار بعضنا على بعض حتى نتماسك ولا يتكاثر علينا أعداءنا ويكون في إتحادنا قوة ترهب أعداء الإسلام، كذلك أن نتحلى بمكارم الأخلاق تأسياً برسولنا الأعظم صلى الله عليه وسلم.