×
10 شعبان 1446
8 فبراير 2025
المصريين بالخارج
رئيس مجلس الإدارة: فوزي بدوي
مقالات

إيمانويل كانط: فيلسوف النور الذي رسم حدود العقل والإنسان بقلم بهجت العبيدي

المصريين بالخارج

في قلب القرن الثامن عشر، عصر الأنوار الذي اهتزت فيه أركان الفكر الأوروبي بين إرث القرون الوسطى العتيق وموجات التنوير الجريئة، بزغ نجم إيمانويل كانط كواحد من أعظم العقول التي صاغت فهمًا جديدًا للإنسان والعالم. لم يكن كانط مجرد فيلسوف من أولئك الذين يكررون أسئلة السابقين أو يبنون على أنقاض أفكارهم، بل كان مهندسًا فكريًا مبتكرًا، أعاد رسم حدود العقل البشري وأجاب عن الأسئلة الأساسية التي تشغل وجدان الإنسان.
لقد كان كانط ابنًا لمدينة كونيغسبرغ - كالينينغراد في روسيا الآن - تلك المدينة البسيطة التي لا توحي بسكانها العاديين بأنها ستنجب عقلًا استثنائيًا. لقد عاش حياته كلها في هذه المدينة ولم يغادرها قط، لكن أفكاره تجاوزت حدود الجغرافيا لتصل إلى أرجاء العالم. إنه كان رجلًا يعيش بانضباط مذهل؛ روتينيًا في مظهره، لكنه يحمل داخله عقلًا يموج بالأفكار والأسئلة. يقول جيرانه إنه كان ثابتًا في عاداته اليومية إلى درجة أنهم اعتادوا ضبط ساعاتهم على موعد نزهته اليومية، تلك النزهة التي تبدو بسيطة لكنها كانت وقتًا للتأمل العميق، حيث ينغمس في أسئلته الفلسفية حول الوجود والمعرفة والإنسان.
لقد أطلق كانط مشروعه الفلسفي في زمن كانت فيه أوروبا تتصارع بين نظرتين متناقضتين للمعرفة: العقلانية، التي تأسست مع رينيه ديكارت ورأى أتباعها، مثل باروخ سبينوزا وجوتفريد لايبنتز، أن العقل وحده قادر على إدراك الحقيقة، باعتباره مصدر المبادئ القبلية التي تسبق التجربة. وعلى الجانب الآخر، التجريبية، التي ارتبطت بـجون لوك وتطورت مع جورج بيركلي وبلغت ذروتها مع ديفيد هيوم، حيث أكدت أن التجربة الحسية هي المصدر الوحيد للمعرفة، وأن العقل لا يمتلك أفكارًا فطرية، بل يولد صفحة بيضاء تكتسب محتواها من الإدراك الحسي.
وبين هذين القطبين المتناقضين، ظهر إيمانويل كانط ليقدم حلاً مبتكرًا يجمع بينهما في إطار واحد. ففي كتابه "نقد العقل الخالص"، الذي يُعد أحد أعظم الأعمال في تاريخ الفلسفة، شرح كانط كيف أن المعرفة ليست مجرد انعكاس للواقع الخارجي على صفحة عقل بيضاء، كما تصور التجريبيون، وليست أيضًا منتجًا خالصًا للعقل كما رأى العقلانيون، بل هي نتاج تفاعل معقد بين العقل والتجربة، حيث يُسهم العقل في تنظيم معطيات الحس وفق مفاهيمه الفطرية، مما يجعل المعرفة ممكنة. بهذا الطرح، سعى كانط إلى تجاوز الجدل بين المدرستين، مؤسسًا ما عُرف لاحقًا بـالمثالية المتعالية التي مهدت الطريق لتحولات فلسفية كبرى في الفكر الغربي.
وفقًا لكانط، فإن العقل البشري ليس مجرد مستقبل سلبي للمعلومات، بل هو مشارك نشط يفرض شروطه على ما ندركه. هذه الشروط هي القوالب العقلية التي تجعل التجربة ممكنة، مثل مفاهيم الزمان والمكان والسببية. بعبارة أخرى، لا ندرك العالم كما هو في ذاته، بل كما يظهر لنا من خلال هذه القوالب. هنا كان كانط يعيد تعريف حدود العقل الإنساني، مؤكدًا أنه ليس أداة مطلقة قادرة على فهم كل شيء، بل هو محكوم بحدود تجعله عاجزًا عن الوصول إلى “الأشياء في ذاتها”، تلك الحقيقة المطلقة التي تبقى خارج متناول إدراكنا.
لكن كانط لم يتوقف عند حدود المعرفة، بل مدّ فلسفته إلى عالم الأخلاق، حيث أحدث ثورة فكرية لا تقل أهمية. في كتابه “نقد العقل العملي”، قدّم مفهوم “الأمر القطعي”، وهو المبدأ الأخلاقي الذي يقوم على فكرة بسيطة وعميقة في الوقت ذاته: تصرف دائمًا بطريقة تجعل من أفعالك قاعدة يمكن تعميمها لتصبح قانونًا عالميًا. كان هذا المفهوم خروجًا عن الفلسفات الأخلاقية التي اعتمدت على النتائج أو المنفعة. بالنسبة إلى كانط، الأخلاق ليست مسألة براغماتية، بل واجب نابع من احترام الإنسان لعقله وإرادته الحرة.
هذا التصور للأخلاق كان بمثابة دعوة لتحرير الإنسان من قيود المصلحة الشخصية أو الضغوط الخارجية، وهو ما جعل فلسفة كانط الأخلاقية تتسم بالجرأة والثورية. لقد كانط كان يؤمن بأن الإنسان قادر على التصرف وفقًا لهذه المبادئ المطلقة لأنه كائن عاقل، وأن العقل ليس مجرد أداة لفهم العالم، بل هو أيضًا مرشد أخلاقي يمكنه أن يوجهنا نحو الصواب.
إلى جانب معرفته وأخلاقه، كانت لكانط نظرة عميقة ومبتكرة للجمال. في كتابه “نقد الحكم”، تناول طبيعة الجمال من منظور فلسفي غير مسبوق. حيث رأى كانط أن الجمال ليس مجرد صفة موضوعية للأشياء، كما كان يعتقد البعض، ولا هو انطباع ذاتي بحت. بل الجمال، بالنسبة له، تجربة تنبع من تفاعل متناغم بين الذات والموضوع. فعندما ننظر إلى لوحة فنية أو منظر طبيعي، فإننا لا نرى فقط شيئًا خارجيًا جميلًا، بل نشعر بانسجام داخلي بين حواسنا وعقولنا، وهو ما يولد شعورًا بالمتعة.
هذا الفهم للجمال جعل من الفن وسيلة لرفع الإنسان فوق الماديات، ونافذة لرؤية العالم بشكل أعمق وأكثر إنسانية. بالنسبة لكانط، الفن ليس مجرد وسيلة للتسلية أو التعبير، بل هو مساحة تأملية يمكننا من خلالها إدراك انسجام الكون وفهم دورنا فيه.
إن فلسفة كانط ليست مجرد أفكار معقدة تتحدث عن العقل والمعرفة، بل هي في جوهرها دعوة إلى تحرير الإنسان. تحريره من قيود الجهل والخرافة، من سلطة القوانين التي تفرض عليه من الخارج، ومن النظرات السطحية التي تحد من قدرته على رؤية الجمال في العالم. كانط كان يؤمن أن العقل هو أعظم أسلحة الإنسان، وأن استخدامه بشكل صحيح يمكن أن يفتح آفاقًا جديدة أمام البشرية.
لقد ترك لنا كانط إرثًا فكريًا لا يزال يلهمنا حتى اليوم. لقد أثبت أن الأسئلة التي تبدو مستحيلة ليست سوى بداية لفهم أعمق، وأن الإنسان ليس مجرد كائن عابر في هذا الكون، بل هو كائن يمتلك قدرة غير محدودة على التفكير والتأمل والإبداع.

حين نقرأ كانط اليوم، نجد أنفسنا أمام رجل لم يكن مجرد فيلسوف، بل كان نبيًّا للأنوار، صوتًا قويًا للعقلانية، وداعيًا إلى الإنسانية. إن فلسفته هي تذكير دائم بأننا كائنات قادرة على الفهم، على الإبداع، وعلى بناء عالم أفضل.
في مقاله الشهير ما التنوير الذي كتبه عام ١٧٨٤ ردا على القس يوهان فريدريش تسولنر عرف كانط التنوير بأنه تحرر الإنسان من قصوره الذاتي الذي جلبه على نفسه بسبب عجزه عن استخدام عقله دون توجيه من الآخر، داعيا الأفراد إلى استخدام عقولهم بشجاعة "اجترئ على الفهم" بعيدًا عن سلطة الوصاية الفكرية التي تفرضها المؤسسات السياسية والدينية بهذا الطرح، أراد كانط أن يضع العقل في مركز التوجيه الذاتي للإنسان، فاتحًا الطريق أمام مشروع الحداثة الفكرية والسياسية.
إن إرث كانط ليس مجرد تأملات فلسفية، بل هو دعوة مفتوحة لنا جميعًا للاستمرار في التفكير، للاستمرار في طرح الأسئلة التي يبدو أن لا إجابة لها. وكأن كانط يقول لنا: ليست الحقيقة هي الهدف النهائي، بل هي الرحلة التي نخوضها في سبيل الوصول إليها، تلك الرحلة التي تجعل من العقل رفيقنا الأكبر، ومن الحرية غايتنا الأسمى. إن تأثير كانط لم يقتصر على الفلسفة المجردة، بل امتد إلى الفكر السياسي والقانوني الحديث، حيث نجد صدى لأفكاره في "مشروع السلام الدائم" ١٧٩٥ والذي دعا فيه إلى نظام دولي قائم على القانون، واحترام حقوق الإنسان، ومنع الحروب العدوانية، وقد شكلت هذه الرؤية مصدر إلهام لميثاق عصبة الأمم (1919)، الذي سعى إلى وضع أسس للسلام العالمي، ثم أعيد إحياؤها في ميثاق الأمم المتحدة (1945)، وظهرت بوضوح في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948). بهذا، لا تزال فلسفة كانط تمثل أساسًا فكريًا للقانون الدولي الحديث، مؤكدةً أن السلام ليس مجرد غياب للحرب، بل نظام قانوني وأخلاقي يقوم على العدالة والعقل والتعاون بين الشعوب.
لقد أثبت كانط، بأفكاره ونظرياته، أن النور يمكنه أن ينبثق حتى في أحلك اللحظات، وأن العقل الإنساني، برغم محدوديته، يمتلك القدرة على صنع العجائب. إنه فيلسوف النور بامتياز، ذلك الرجل الذي عاش حياته بهدوء في مدينته الصغيرة، لكنه رسم للعالم خريطة جديدة لفهم الإنسان والعقل والحياة. ومع ذلك، لم يكن طريقه مفروشًا بالورد، إذ عانت أفكاره من مقاومة شديدة، لا سيما من الكنيسة التي رأت في فلسفته تهديدًا لسلطتها الدينية. فقد هاجمته الكنيسة بشدة، معتبرةً أن أفكاره تشكك في مبادئ الدين والأخلاق التقليدية.
لكن رغم هذه العداوة والتوتر الاجتماعي الذي عاشه، فقد كان مشهد جنازته مهيبًا ومؤثرًا، حيث أظهرت الجماهير احترامًا عميقًا له، رغم أنه كان بعيدًا عن التفاعل الاجتماعي المعتاد مع أهل بلدته. لقد كان هذا الاحتفاء الواسع بمثابة تكريم لروح فكره العظيم وإسهاماته التي غيرت مجرى التاريخ الفلسفي. وقد تجسد هذا التناقض بين عزلة كانط الاجتماعية واحتفاء العالم بفلسفته في جنازته، مما يبرز عمق تأثيره على الفكر الإنساني.

استطلاع الرأي

أسعار الذهب

متوسط سعر الذهب اليوم بالصاغة بالجنيه المصري
الوحدة والعيار الأسعار بالجنيه المصري
عيار 24 بيع 3,566 شراء 3,589
عيار 22 بيع 3,269 شراء 3,290
عيار 21 بيع 3,120 شراء 3,140
عيار 18 بيع 2,674 شراء 2,691
الاونصة بيع 110,894 شراء 111,605
الجنيه الذهب بيع 24,960 شراء 25,120
الكيلو بيع 3,565,714 شراء 3,588,571
سعر الذهب بمحلات الصاغة تختلف بين منطقة وأخرى

مواقيت الصلاة

السبت 11:25 صـ
10 شعبان 1446 هـ 08 فبراير 2025 م
مصر
الفجر 05:13
الشروق 06:41
الظهر 12:09
العصر 15:15
المغرب 17:38
العشاء 18:56