”قافلة الصمود”: مصر… بين عبء التاريخ وجسارة الموقف.بقلم بهجت العبيدى


على دروبٍ محفوفة بالأمل والوجع، تسير “قافلة الصمود” صوب غزة، نحسن الظن بهؤلاء المشاركين من العوام - طبعا غير هؤلاء الذين يتاجرون بكل شيء والذين يمكن أن يكون بعضهم قد خَطَّط أو دُسّ في القافلة - هؤلاء البسطاء يحملون بين جنباتهم قلوبًا مؤمنة بالإنسانية، وأرواحًا تهفو إلى نصرة المظلوم، متجاوزة العوائق، لا تهاب صعوبة الطريق ولا جفوة الريح. إننا نؤمن أن الأغلبية من أعداد هذه القافلة التي تزيد عن ألفي إنسان اجتمعوا على نُصرة الحق، مؤمنين أن التضامن الإنساني ليس خيارًا، بل واجب تُقرّه الفطرة ويحثّ عليه الضمير.
ومع سمو الغاية، لا يمكن لهذا الحدث أن يُقرأ بمعزل عن مصر – أمّ التاريخ، وضمير الجغرافيا، وبوابة الشرق إلى الكرامة. فمنذ النكبة الأولى، لم تتأخر القاهرة عن موقعها في الطليعة؛ لا سياسًيا ولا عسكريًا ولا دبلوماسيًا. أرض الكنانة لم تكن يومًا متفرجة، بل كانت في خندق المواجهة، دفعت من دم أبنائها، ومن استقرارها، ومن سمعتها بين الأمم، ثمنًا غاليًا لحماية القضية الفلسطينية، حينما آثر الآخرون الصمت أو الانسحاب.
لقد كانت مصر ولا تزال ركيزة الاتزان في أكثر القضايا تعقيدًا، تلعب الدور الذي لا يقدر عليه سواها، ليس بمنطق الاستعراض، بل بمسؤولية من يحمل أمانة التاريخ ومكانة الجوار. فتحت معبر رفح حين أُغلقت الأبواب، واحتضنت المفاوضات حين فرّ منها الآخرون، وسعت بين المتنازعين حين انسدت كل السبل.
ومن هنا، فإن أي تحرك – مهما كانت نواياه نبيلة – لا يمكن أن يتجاهل هذا الدور ولا أن يفرض نفسه بمنطق الأمر الواقع، أو بخيالٍ يتصور أن مصر يمكن أن تُبتز أو تُؤخذ على حين غفلة. من يتوهم أن القرار المصري قابل للإملاء، لم يعرف بعد قدر هذه الأمة، ولا وعورة الطريق إلى قلبها. مصر التي وقفت في وجه الأعاصير لن تُملي عليها سوى إرادتها، ولن تُحرّكها إلا رؤيتها المتزنة، التي تزن الأمور بميزان المصلحة العليا والمسؤولية القومية.
إن مساندة فلسطين ليست شعارًا عابرًا على لافتة، بل سياسة راسخة، وواجبًا تاريخيًا، تديره مصر بالحكمة والروية، لا بالاندفاع ولا بالعواطف الجارفة. وكان حريًّا بمن أطلق القافلة أن يُنسّق مسبقًا مع الجهات المصرية المعنية، لا أن يجعل من المبادرة عبئًا على من يدفع ثمن التبعات منذ عقود.
ليست مصر في حاجة إلى من يُذَكّرها بفلسطين، فهي أول من بكى جراحها ولم تتخل يوما عنها، ولكنها، في المقابل، لا تقبل أن تُختزل أدوارها، أو يُساء إلى مكانتها، أو يُستخدم اسمها في معادلات لا تراعي مقتضيات السيادة والكرامة.
ولعل في التنسيق المسبق، والحوار الصريح، ما كان كفيلًا بأن يُجنّب الجميع التوتر، ويُبقي على صورة القافلة ناصعةً كما كانت نوايا المشاركين فيها. فالدعم حين يفتقر للحكمة قد يتحول، دون قصد، إلى عبء سياسي، ومصر، بما تمثله، لا تسمح أن يُستدرج موقفها إلى فخاخ المزايدات أو يزج به في مسارات لا تليق بثوابتها.
إن مصر، التي حملت همّ فلسطين عقودًا، لا تُساوم على المبادئ، ولا تُجامل على حساب كرامتها، ولا تقبل أن تكون مجرد محطة في مشهد مُعدّ سلفًا. هي تكتب دورها بإرادتها، وتُحدد بوصلتها وفق رؤيتها، لأنها ببساطة… مصر.