مع عميد الجالية المصرية دكتور ”محمد جويد”
رحلة زمنية طويلة هي تلك التي أخذتنا فيها الحياة، انتقلنا خلالها من موطن رأسنا إلى بيئة مغايرة: مناخا وبشرا وعقلية ومنظومة قيم، فلا شك أن التباين كان واضحا بين تلك العزبة النائية "عزبة موسى بلسا الجمالية بمحافظة الدقهلية" محل مولدي ومدينة ليؤبن التابعة لمقاطع شتايرمارك النمساوية محل إقامتي منذ ما يزيد عن ربع قرن.
بكل تأكيد كانت اللقاءات التي تجمعنا، نحن المصريين، بعضنا البعض تخفف وطأة تلك الوحشة التي استشعرناها في بداية تلكم الرحلة الطويلة التي بدأت في منتصف العقد التسعيني من القرن الماضي، في ذلك الوقت كان القنوات الفضائية حديثة العهد، ولم يكن الحصول عليها متوفر بسهولة في هذه الأيام، فكانت الغربة متجسدة ببشاعة، تلك التي خفت رويدا رويدا، بفضل تلك القفزة الهائلة في الثورة التكنولوجية الهائلة التي لحقت قطاع الاتصال فأصبح التواصل مع الأهل والأصدقاء الذين خلفناهم وراءنا يسيرا، إضافة لانطلاق تلك القنوات الفضائية المتعددة والتي نقلت الأخبار: أخبار وطننا لحظة بلحظة، وعرضت الأعمال الدرامية التي تعكس البيئة التي غادرناها، والعلاقات الاجتماعية التي تربط أبناء بيئتنا بعضهم البعض، والصراعات التي لا يخلو منها مجتمع، كما عرضت هذه القنوات الأفلام السينمائية التي تربينا عليها، إضافة لنقل مباريات كرة القدم المصرية: للأندية وللمنتخب، هذا الذي أعادنا لنعيش تفاصيل الحياة اليومية في مصر بدقة: نحزن لما يُحْزِن أهلها، ونطير فرحا بما يسعد المصريين.
ودائما هناك شخصيات يعتز الإنسان منا وهو يشاركها تلك اللحظات، هذه الشخصيات منها الزملاء والأصدقاء، وهؤلاء غالبا ينتمون لنفس الجيل: يتقاربون في العمر ويتشاركون في الأمل ويتقاسمون لحظات النجاح والانتصار، ولحظات الإخفاق والانكسار، وبالطبع كان هناك جيل قد سبقنا وحل الرحال متخذا النمسا مقرا لإقامته، هذا الجيل المصري الذي سبقنا كان يتميز بأن الغالبية العظمى فيه قد تلقت تعليمها هنا، وحصلوا على شهادات جامعية مكنتهم من العمل في وظائف متميزة، ومن الشخصيات التي شاء لنا القدر أن نتعرف عليها، وجمعتنا بها علاقة محترمة ممتدة منذ ربع قرن تقريبا، بعدما استطعنا أن نرتب حياتنا الجديدة، ونفتتح مسجدا في هذه المدينة النمساوية، التي لم يكن بها مسجد، كان الدكتور محمد عزت جويد، فالرجل زارنا في أواخر تسعينات القرن الماضي بعدما قرر أن يخوض انتخابات الجالية الإسلامية بمقاطعتي "شتايرمارك وكينترن" في مواجهة قائمة تضم تحالف جماعة الإخوان والجماعة السلفية، والذين قد سبقوا بالزيارة لكي يقنعونا بالإدلاء لهم في تلك الانتخابات، ولكن ما أن زارنا الدكتور محمد عزت جويد إلا واتخذنا - أنا وصديقي المهندس حسام بازينة وصديقنا أحمد نصار والصديق محمد إبراهيم وبقية الأصدقاء والزملاء - قرارا واضحا بدعم قائمته في هذه المعركة الانتخابية التي مازلنا نفتخر ونزهو بدورنا فيها، فبالرغم من عرض قائمة جماعة الإخوان والجماعة السلفية تسديد اشتراكات أعضاء المسجد عندنا وتوفير حافلة لنقل هؤلاء الأعضاء لمدينة جراتس مقر لجنة الانتخابات، إلا أننا رفضنا ذلك وأعلنا الدعم المطلق لقائمة الدكتور جويد الذي لم يقدم نفسه، وهو رئيس المركز الإسلامي بمدينة جراتس وهو الذي يعمل في العمل الإسلامي عشرات السنوات، لم يقدم نفسه كمتفقه في الدين ولا رجل دين ولا شيخا، بل قال: لأني أعيش بالنمسا منذ أكثر من أربعين سنة - في ذلك الوقت - ولي خبرة كبيرة بالمجتمع النمساوي، وبحكم وظيفتي، حيث كان نائب مدير إحدى أكبر مستشفيات شتايرمارك، وعلاقاتي أستطيع بفضل الله أن أستمر في خدمة العمل الإسلامي وخدمة الجالية الإسلامية بالنمسا عموما ومقاطعة شتايرمارك على وجه الخصوص، هذا التقديم الذي قدرنا له فيه صراحته ووضوحه وحرصه على عدم المتاجرة بالدين.
"ملاحظة: قائمة جماعة الإخوان والجماعة السلفية كان مبدؤها الحصول على الأصوات بأية وسيلة وأي ثمن، فلقد قال زعيمهم في ذلك الوقت الدكتور "ج م" - هو الآن في مصر : إننا على استعداد للاستعانة بالراقصات من أجل الفوز بهذه الانتخابات".
المهم انحزنا لقناعتنا ودعمنا الدكتور جويد وسددنا الاشتراكات واستأجرنا حافلة كبيرة وعلقنا لافتات دعم للقائمة التي اخترناها، وانطلقت الحافلة، في اليوم المقرر للانتخابات، ووصلنا بعد حوالي الساعة ونصف إلى مقر اللجنة لندلي بأصواتنا، لنكن ونظل شاهدين على إحدى أعنف المعارك الانتخابية التي استخدمت فيها أقذر الأساليب للتخلص من الدكتور جويد الذي كان يمثل مسلمي المقاطعة في الهيئة الإسلامية العليا عن الجالية الإسلامية في مقاطعتي شتايرمارك وكينترن السابق، فماذا كانت النتيجة؟! هذا ما سنتوقف عنده في مقال قادم.
