مذكرات مهاجر مجهول.. الجزء الثاني (17)

وصلت الى طوكيو في وقت الظهر و وجدت ناكانو في انتظاري، و بعد الترحيب بي، اخذني في عربته التي كان مقودها على اليمين و اخترقنا بها شوارع شمال طوكيو في طريقنا الى مدينة تاكازاكي. لم ارى الا القليل من معالم طوكيو حيث كنا نسير بالعربة في أوتوستراد هو المحور الدائري لهذه المدينة الهائلة. كنت ارى ناطحات السحاب و الطرق المتشابكة و طوابير السيارات. ثم خرجنا من المدينة الى طريق يقطع الارض المنبسطة التي تمتد بين عدة جبال في طريقنا الى تاكازاكي. لاحظت وجود عدد كبير من المصانع و الشركات على طول الطريق و كأننا في منطقة صناعية ليس لها نهاية. و لكن هذا لم يمنع من وجود بعض المزارع متناثرة على جانبي الطريق هنا و هناك. كنا ارى خط السكك الحديدية الشهير الذي يجري عليه القطارات فائقة السرعة المسمى ب "شينكانسن".
تاكازاكي مدينة على بعد حوالي ثلاث ساعات بالسيارة من طوكيو و هي تقع في مقاطعة جونما غربها. تاكازاكي هي المدينة التي يوجد بها مقر شركة “جيمرو" التي تنتج الاجهزة و المستحضرات الطبية. هذه الشركة لا تنتج هذه الاجهزة و المستحضرات فقط بل تقوم بأبحاث علمية على اعلى المستويات في مجال التشخيص و العلاج.
وصلنا للمدينة و اصطحبني ناكانو للفندق الذي حجزوا لي به و الذي لا اتذكر اسمه الآن. و عزمني على العشاء في مطعم سوشي في وسط المدينة الهادئ و كانت هذه هي اول مرة اعرف عن هذا النوع من الطعام و اتذوقه، و الآن اصبح السوشي واحد من اهم الاطعمة السريعة في العام و الحقيقة عجبني جدا و لكني احذر من صلصة "الوازابي" الحريفة جدا رغم مظهرها الأخضر الفاتح البرئ.
و نمت كالقتيل في الفندق، فعندما تطير للشرق يكون فرق الساعات "الجيت لاج" متعباً جدًا، و اشد وطأة بكثير من فرق الساعات عندما تذهب للغرب.
و في الصباح التالي جاء ناكانو و ذهبنا لمقر جيمرو و كان قريبا من الفندق و يوجد على ضفة نهر "توني". استقبلوني بترحاب صادق مع كثير من الانحناءات حتى وجعني ظهري. و دخلت معاملهم و احسست انني بداخل كومبيوتر مهول. اليابانيون ناس مهذبة جدا و غاية في الجدية في كل شئ، و لكنهم عندما يتكلمون يتهيأ لك انهم يشخطون فيك، و يبدو ان هذا من طبائع لغتهم فإسلوبهم يتغير تماما عندما يتكلمون بالإنجليزية.
اروني الجهاز الذي كان يجب عليّ تعلم استخدامه و اروني الكيت الكيميائي الذي اخترعوه لقياس بقايا الكوليسترول التي نريد قياسها ، وكان هذا هو الجهاز الوحيد في العالم من نوعه في ذلك الوقت. قضيت اليوم كله، ماعدا نصف ساعة للغداء، في العمل معهم، و كان يصعب عليّ في بعض الأحيان أن افهم ما يقولون لصعوبة نطقهم للانجليزية.
و بعد العمل و العشاء عزمني ناكانو على عرض مسرحي في وسط المدينة ، فقبلت بترحاب رغم تعبي الشديد. و لكني فوجئت ان العرض عبارة عن استعراض لموسيقى و رقص "الكابوكي" الياباني العريق. كانت خشبة المسرح التي تلف حول نفسها و يظهر و يختفي الممثلون من امامها و خلفها، بالإضافة لملابس الاشخاص و الوان وجوههم على شئ من الجمال و السحر و لكن موسيقى الكابوكي كانت مزعجة للغاية. موسيقي شنيعة عبارة عن دق مستمر للطبول بسرعات مختلفة تصاحبه خبطات مفاجئة من آلات نحاسية و صفير بشع و رنات مضطربة من آلات موسيقية مجهولة. اما الاغاني فلم تكن الا فحيحا مرهباً و صراخا ليس له أي معنى. و قال لي ناكانو أنه ، و هو الياباني الاصلي، لا يفهم ما يغنونه لانهم يغنون باللغة اليابانية القديمة. و أخيرا و بعد حوالي ساعتين من التعذيب المتواصل خرجنا و انا اعاني من صداع شديد و غثيان و رنين في الاذنين و عدت للفندق و انا في أسوأ حال.
تذكرت هذه الليلة ما حدث في مصر عندما افتتحت دار الاوبرا الجديدة و التي كانت ممولة من الحكومة اليابانية. و افتتحت بعرض من الكابوكي، و كمجاملة لليابان و اعترافاً بجميله عرض التليفزيون المصري الرسمي هذا الاستعراض المرعب على الهواء مباشرة. و كانت ليلة سودة على الجمهور المصري. و اتذكر أن المصريين ذهلوا من سوء هذا المسرح و لم يتحملوا متابعته و غير معظمهم القناة العارضة له او اطفئوا جهازهم. و اتذكر ايضا أن الامتحان الذي كان عليّ ادخله في اليوم التالي لهذا العرض في علم الامراض كان كله أسئلة من نوع: ما هو مرض كاوازاكي ، أو اكتب ملخص عن مرض تاكاياسو ، او ما هي اعراض مرض هاشيموتو. و تسألنا، أصدقائي و انا، في كلية طب عين شمس عن ما اذا كانت هناك علاقة بين هذا الامتحان و إفتتاح دار الاوبرا الجديدة و استعراض الكابوكي الياباني، خاصة أن الأسئلة جاءت معظمها عن أمراض وصفها اطباء و علماء يابانيون.
و في اليوم الاخير تركوني لعمل جولة سياحية في المدينة و هي مدينة متوسطة الحجم، شديدة الهدوء، خاصة في المساء. لا تكاد تسمع فيها كلاكس سيارة او صوت راديو او تليفزيون في المحلات. زرت فيها في اعلى تل تمثال مرتفع جداً لاحدى الشخصيات المقدسة في الديانة البوذية و اسمها بياكوي كانون. و تاكازاكي مشهورة بصناعة دمية داروما المعمولة على صورة تخيلية لراهب بوذي مشهور اسمه بوديدارما و هو المؤسس لفلسفة و تقاليد "الزين" و هي جزء مهم من العقيدة البوذية و اصبحت موضة في العالم الغربي. و داروما هي عبارة عن دمية حمراء على شكل رأس الراهب و يشتريها الناس و السياح للتيمن بها و جلب الحظ السعيد.
وكذلك زرت قلعة تاكازاكي الاثرية و معبد هارونا على جبل هارونا و هو واحد من الجبال المحيطة بالمدينة.
و المدينة مليئة بالمستشفيات المتخصصة و مراكز البحث العلمي و الجامعات، و شديدة النظام و النظافة ، و مليئة بالمساحات الخضراء و اهمها هي حديقة سويكنتاي و التي تسمع فيها اصوات تنقيط المياة العذبة في جرات سويكنكوتسو الموضوعة في الاحواض الصخرية بطرقات الحديقة.
اعجبت باليابان و لكني لم اعشق هذا البلد ، و قد يكون من المفيد أن اعود له مرة أخرى لعلي أشعر بروحه و وجدانه اللذان لم أشعر بهما في رحلتي القصيرة هذه. البلد بدا لي بارداً باهتاً رمادي اللون و كئيباً. فكرني بالمانيا التي لم احبها من اول وهلة كما احببت لندن و إيطاليا و اسبانيا و تركيا، و لكني بعد زيارات عدة لالمانيا احببتها هى الاخرى و ذلك بعد تعرفي على ثقافتها اكثر و احساسي بروحانيتها المختفية خلف قناع بارد من النظام المشدد و القواعد الصارمة. هناك بلاد يجب أن تعيش فيها بعض الوقت، قد يطول أو قد يقصر، لتدرك نواحي الجمال الانساني فيها، و هناك بلاد اخرى تحس فيها بذلك من أول وهلة.
و في اليوم التالي أخذت الطائرة عائداً الى فينيسيا بعد المرور بعربة ناكانو على تخوم طوكيو التي لم ارى فيها غير خط سماءها المرصع بناطحات السحاب و الابراج الشهيرة.