من هنا نبدأ... صناعة العقول في عصر الذكاء الاصطناعي
بناء الشخصية المتكاملة بين الأصالة والمعاصرة بقلم: د. مدحت يوسف
في هذا العصر المتسارع، لم تعد صناعة العقول ترفًا فكريًا أو خيارًا تربويًا، بل أصبحت ضرورة وجودية، وقضية أمن قومي من الطراز الأول. فهي ليست مسؤولية جهة بعينها، بل مشروع وطني يقتضي تضافر جهود الأسرة، والمدرسة، والمجتمع، ومؤسسات الدولة. فالعقل الذي نعدّه اليوم هو من سيصيغ ملامح الغد، إما نحو البناء والتقدم أو – لا قدر الله – نحو الانحراف والانهيار.
وإذا كنا نؤمن أن العقول هي الثروة الحقيقية التي لا تنضب، فإننا في الوقت ذاته ندرك أن صناعة العقل الحديث سلاح ذو حدين. فعقلٌ متعلم بلا قيم قد يتحول إلى أداة هدم، مهما بلغ من الذكاء والتفوق التقني. أما العقل المؤطر بالأخلاق والمنضبط بالقيم، فيمكن أن يصنع معجزات ويُسهم في نهضة وطنه وأمته.
إن الانفتاح على أدوات العصر، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي، والبيانات الضخمة، والأنظمة الذكية، يجب أن يقابله بناء داخلي متين لعقول تعرف كيف توظف هذه الأدوات في خدمة الإنسانية، لا في تهديدها. فالمشكلة لم تعد في امتلاك المعرفة، بل في كيفية استخدامها وتوجيهها. وهنا تبرز خطورة غياب الضوابط والمرجعيات، وغياب الرؤية الواعية التي تؤطر هذه الصناعة الخطيرة.
من هنا تأتي أهمية الحوكمة الرشيدة لصناعة العقول، حوكمة لا تُبنى على الاجتهادات الفردية أو الخطط المكررة، بل على استراتيجيات مدروسة بعناية، تربط بين الأصالة والمعاصرة، وتراعي التحديات الوطنية والهوية الثقافية، وتستشرف مستقبلًا يتشكل بسرعة خارقة. إنها حوكمة تضمن أن يكون العقل ابنًا لوطنه، وخادمًا لقيمه، ومسؤولًا عن قراراته، لا تابعًا لمنظومات عابرة تُفرغه من انتمائه وتدفعه إلى الاغتراب.
إن التعليم وحده لا يكفي، ما لم يكن ضمن منظومة وطنية متكاملة تُدير صناعة العقول بشكل ممنهج، قائم على التكامل بين التعليم والتربية، بين المهارة والسلوك، بين التقنية والضمير. ولابد أن تبدأ هذه المنظومة من الطفولة، وتستمر برعاية متواصلة، وتقييم دوري، وتغذية راجعة تضمن التصحيح والتطوير.
الأسرة هنا ليست مجرد جهة متابعة، بل هي الحاضنة الأولى للقيم، والموجه الأول لسلوك الأبناء. أما المدرسة، فعليها أن تتحول من دور التلقين إلى منصة حقيقية لبناء المهارات وإطلاق العقول. والمجتمع بأكمله يجب أن يتحمل مسؤولية المشاركة في صناعة العقل الوطني، سواء عبر الإعلام، أو المؤسسات الدينية، أو النوادي والمراكز الشبابية، أو المبادرات المجتمعية.
وفي ظل هذا البناء المتكامل، فإن صناعة العقل الوطني الأخلاقي المبدع الواعي، تصبح الضمان الحقيقي للحفاظ على أمن الدولة الفكري والثقافي والاجتماعي. فلا تنمية بلا عقول، ولا ريادة بلا وعي، ولا مستقبل بلا بناء فكري مؤسس على قيم راسخة.
إن بناء العقول في عصر الذكاء الاصطناعي ليس مشروع تعليم فقط، بل هو مشروع بقاء، واستثمار طويل الأجل، وثروة قومية استراتيجية تُعادل الثروات الطبيعية، بل تفوقها. وكلما كانت هذه الصناعة محكومة بمنظومة واعية، وقيادة تربوية حكيمة، كلما ضمنا أجيالًا تبني لا تهدم، وتبدع لا تتبع، وتحمي الوطن لا تغترب عنه.


















