بهجت العبيدى يكتب عن.. تشكيل وعي الأمة يبدأ بالاهتمام بالأطفال
إن عملية تشكيل الوعي عملية معقدة بدرجة كافية، هذا الذي يعني أنه لابد أن يتم العمل عليه بعزيمة وإصرار وحزم يليق بتلك الدولة أو هذه الأمة التي تدرك أهمية الوعي بالنسبة لأبنائها، وأهمية الوعي في النهوض بتلك الدولة، فليس معقولا أن تعلن أمة أنها تريد أن تغادر مربع الدول المتخلفة وتلتحق بركب الدول المتقدمة، ولا تضع أمام عينيها هدفا واضحا وضوح الشمس في كبد السماء، وهو أن تنشر الوعي بالعالم وما وصل إليه من تقدم مرة، والوعي بما آل إليه حالها مرة أخرى، والوعي بما يجب القيام به للنهوض مرة ثالثة، بين أبنائها، هذا الوعي الذي يجب أن يكون مصحوبا بإيمان عميق بأهمية أن هذا الوطن يستحق مكانة تليق بأبنائه مرة، وبتاريخه مرة أخرى.
إنه إذا أردنا أن نخطو خطوات مدروسة محسوبة نتائجها بدقة متناهية، فعلينا أن نؤمن أن البداية الحقيقية تكون في تشكيل وعي الطفل، ذلك الذي يعني أنه خلال عدة عقود نكون قد تحصلنا على أغلبية واعية من الشعب.
إن انطلاقة أية أمة تسعى إلى تغيير حالها إلى حال أفضل لا يمكن أن تكون إلا برعاية الطفل، والاهتمام بالمواهب من هؤلاء الأطفال، والقيام على تعليمه بالشكل الذي يضمن لنا إنتاج شاب يطلع بمسؤولياته في النهوض بذلك الوطن، وإنشاء أجيال تتمتع بالوعي بالواقع الذي تعيشه مرة، وبقدرات أفراد تلك الأجيال الذاتية الفردية مرة أخرى، والقدرات الجمعية مرة أخرى.
إن الطفل يولد وهو صفحة خالية، تقوم الأسرة والمؤسسات التعليمية المختلفة، والمؤسسات الدينية كذلك، بالإضافة إلى الموروثات الشعبية في كل بيئة من البيئات بخط السطور الأولى في تلك الصفحة البيضاء، يعقبها شعور الطفل ومن ثم الشاب، وبعد ذلك الرجل بالإتيان بالبصمة الشخصية الخاصة به، ذلك من خلال الجهد الذي يبذله، والاطلاع الذي يختاره، والموهبة، إن وجدت.
وبالنسبة للموهية فإن في الأعوام الأولى التي يستشعر فيها الصبي، بداية من فترة البلوغ، بذاته، يبدأ في السعي للتميز عن غيره، كما يجتهد في إثبات ذاته، والتعبير عن تلك الخواطر، وهذه الخلجات التي بدأت تدب في ذهنه، وهنا نجد اندفاعا هائلا عند الأطفال والصبية وكثير من الشباب لتقديم ما يظنون أنه يدخل في باب الإبداع، وما هي إلا محاولات بدائية، في تصورنا، للتعبير، تفتقد بكل تأكيد لمفهوم الإبداع، وتفتقر إلى نضج التجربة، كما يعدم فيها، في الكثير من الأحايين، تلك الأصول والقواعد التي لا يمكن لعمل أن يوصف بالإبداعي إلا إذا تحلى بها.
في هذه الفترة المُبْكرة من العمر لا يستطيع الطفل أو الصبي أن يقيم تلك التجربة التي يخوضها، وذلك نظرا لقلة الخبرة لديه من ناحية، بالإضافة لقلة العلم والدرس والمعارف بصفة عامة، ودائما ما يرتبط الاندفاع في التقييم بعدم امتلاك الأدوات العلمية والمنهجية الخاصة التي تؤهل لصواب التقييم. وهنا يأتي دور المؤسسات والكتاب والمثقفين، والصحافة، والإعلام عامة، هي إحدى أهم الجهات التي يمكن أن تلعب دورا حاسما في توجيه وتقييم ونصح هؤلاء الذين يخطون خطواتهم الأولى في المضمار التعبيري، الذي هو أكثر ما يستهوي الجديد من الأجيال.
ولعله من الحكمة أن نعترف أننا، أعني الكتاب والمثقفين والمتخصصين المنوط بهم هذه المهمة، نواجه الآن أزمة عميقة في توجيه الجيل الجديد، ونصحه ووضعه على الطريق الصحيحة، ذلك أن وسائل التواصل الاجتماعي، والتي تمنح الانتشار الواسع بسرعة كبيرة، هي إحدى المعوقات الكبيرة والعقبات الهائلة، ليس في توجيه الصغار فقط، بل الناضجين كذلك، حيث أن الانتشار الكبير يوهم هؤلاء بنجاح زائف، خاصة وهناك من يشنف آذان الصغار بمديح في غير محله، فيزيدون مهمة المتخصص والمثقف عموما صعوبة بالغة.
ومن هنا لابد أن يكون هناك تناغم في عمل المؤسسات المعنية بالثقافة والإبداع، ونعني هناك وزارة التربية والتعليم، ووزارة الثقافة والمؤسسات الإعلامية المختلفة: من صحف مطبوعة ومواقع إليكترونية وإعلام مرئي وإعلام مسموع بالإضافة للجامعات وروابط الكتاب والأدباء والفنانين، تناغم بين هؤلاء جميعا والكتاب والمثقفين والمفكرين، في تقديم المحتوى المشكل عن قصد ووعي للبيئة الثقافية العربية التي هي الفضاء الثقافي الذي ينشأ فيه الطفل، ذلك الذي هو بالضرورة بيئة صحية ينشأ إنسان سوي، يدرك لأهمية التعلم خطوة خطوة، والتلقي درجة درجة، والنضوج سلّمة سلمة، ويعلم أنه لم يشهد التاريخ بزوغ موهبة هكذا في الفراغ، أو من الفراغ، بل تلك الموهبة تحتاج الكثير من الجهد للتعبير عن نفسها، والمزيد من العمل لإنضاجها، والمستمر الدرس لصقلها، كل ذلك في بيئة ثقافية صحية، وفضاء مشجع على الإبداع، دون تزييف، ودون المبالغة في التقييم: زيادة أو إنقاص.
