بين رفض الفكر وجلد المفكر
تكلمنا كثيرًا مراتٍ عديدة، عن أخلاقيات الاختلاف وما يستوجبه من عدم الوصول إلى خلاف، وأن الرفض والنقد والاعتراض على الفكر أو الرأي له آدابه التي يجب أن نتعلمها وندرسها -فضلًا عن أن نتدرب عليها تطبيقيًا- وباجتهادٍ مع النفس، حتى نصل إلى الحالة الواجبة في التعامل مع المخالفين.
وما أن طالعتنا وسائل الإعلام بخبر وفاة أحد الطبيبات المشهورات بالآراء الصادمة، والتي قد لا يقبلها غالبيتنا، إلا وانبرى البعض -وهم كثير- بالإساءات والبذاءات والحكم على الطبيبة التي توفيت بأنها خارجة عن الدين أو أحيانا كافرة، وقامت الدنيا ولم تقعد، حيث رد الآخرون برفض الإساءة والتكفير، وهذا أمر طبيعي كرد فعلٍ للتطرف الحاصل في التعامل مع نقد الفكر ورفضه.
ولا يسعنا في هذا المقام إلا أن نسترجع توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي جاء لنا رسولًا يعلمنا هذا الدين العظيم، الذي اصطدم هؤلاء الكثيرون بهذه الطبيبة المتوفاة، دفاعًا عنه.
وأجد أول التوجيهات التي وجهنا إليها النبي الكريم حديثه الصحيح الذي قال فيه: "لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضَوا إلى ما قدّموا".
وبهذا المعنى العظيم أجدني أتعجب متسائلا: هل مَن يسيئون للمتوفاة تحت دعاوى الدفاع عن الدين، هل قرأوا هذا التوجيه النبوي الذي وجهنا إليه النبي الكريم، في نفس هذا الدين الذي يدافعون عنه، ؟!نهيٌ واضحٌ من الرسول الذي بلغ الرسالة، بأن لا نسُب من مات لأنه ذهب إلى ما قدّم، فعلى أي اساسٍ يتبارى هؤلاء في السب والذم والإساءة والتكفير للمتوفاة التي ماتت، ؟!
واقد وجهنا القران الكريم إلى الحوار مع من يختلف معنا حتى لو لم نقتنع بأفكاره بالكلية، وليس بالصدام معه او الحكم عليه والإساءة إليه حيث قال تعالى: {{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}}سبأ (24)، فما بالنا ومن يُقحم الذم والقدح والتكفير على من ماتت ولا يرعوى ولا ينتهي عن ذلك.
وعلى الذي يرى في نفسه العلم والمعرفة الدينية، أن يلتزم ويتعلم أيضا الحكمة، والتي هي أساس التعامل مع المخالفين، ومن أول درجات الحكمة أن يتخير الداعي إلى الله، صياغاتٍ راقية تبتعد عن التعدي والاتهام والتجريح.
ولا ننس في هذا المقام أيضًا أن نذهب إلى ما نكرره كثيرًا من أن النقد ليس منه الإساءة أو السخرية أو الاتهام، بل إن النقد يكون نقدًا للفكر وليس للمفكر، رفضًا للأداء وليس المؤدي، اعتراضًا على الفعل وليس الفاعل، وبذلك نخرج من إطار الشخص إلى رحابة الفكر والرأي ونتعامل في ذلك برقي النقد والاختلاف.
وأخيرًا، أُذكّر هؤلاء بتوجيه النبي "ص" أيضا بوجوب ذِكر محاسن الأموات، وأن يكون اختلافنا عفيفًا راقيًا، لا ينزلق بنا إلى ما نهى عنه الدين تحت دعاوى الدفاع عن ذات الدين.


















