بهجت العبيد يكتب.. سوريا بعد سقوط الأسد: تحديات ومطامع
بهجت العبيدى المصريين بالخارجتشهد سوريا مرحلة مفصلية مع سقوط نظام الأسد، حيث تتقاطع مصالح القوى الإقليمية والدولية في صراع معقد يهدد وحدة البلاد واستقرارها. إن الفوضى التي خلفها انهيار النظام فتحت الأبواب أمام طموحات متناقضة ومخاطر متزايدة، مما يجعل مستقبل سوريا محفوفًا بالتحولات غير المتوقعة.
ومن بين أبرز الأطراف التي تسعى لاستغلال الوضع الجديد في سوريا تأتي إسرائيل وتركيا. إن إسرائيل ترى في الفراغ السياسي والأمني فرصة ذهبية لتعزيز نفوذها، خاصة في منطقة الجولان المحتل. إن الغارات الجوية الإسرائيلية المكثفة التي استهدفت مواقع عسكرية واستراتيجية داخل سوريا تحمل دلالات واضحة على سعي تل أبيب لتقويض أي محاولات لنقل أسلحة متطورة إلى أيدي جماعات تعتبرها تهديدًا لأمنها. كما تسعى إسرائيل إلى فرض واقع جديد على الأرض يضمن تأمين حدودها الشمالية لسنوات قادمة، مستفيدة من الانشغال الدولي بالأزمات الأخرى في المنطقة.
وعلى الجانب الآخر، تركز تركيا جهودها على الشمال السوري، حيث ترى في انهيار النظام فرصة لتعزيز حضورها الإقليمي. إن أنقرة لم تخف طموحاتها في استغلال الوضع لضرب أي إمكانية لقيام كيان كردي مستقل، وهي تعتبر ذلك خطًا أحمر يمس أمنها القومي. والدعم التركي للفصائل المسلحة المعارضة يتجاوز كونه مجرد تحالف تكتيكي، ليصبح جزءًا من استراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى فرض نفوذ تركي مباشر في المنطقة، وسط صمت دولي وتقاعس واضح من الأطراف المؤثرة.
في ظل هذه التحولات، تبرز مخاوف حقيقية من عودة تنظيم داعش إلى الواجهة. إن الفراغ الأمني الناتج عن غياب مؤسسات الدولة وضعف الجيش السوري يشكل بيئة خصبة لعودة التنظيم واستعادة نشاطه. ولا شك أن تنظيم داعش الإرهابي قد يستغل الانقسام الداخلي والصراع الإقليمي لتوسيع رقعة نفوذه، ما يهدد ليس فقط سوريا بل أيضًا الدول المجاورة التي لا تزال تعاني من تداعيات تمدده السابق.
أما الأكراد، الذين لعبوا دورًا رئيسيًا في مواجهة داعش، فإنهن يجدون أنفسهم اليوم في موقف لا يحسدون عليه. لقد كانوا يعتمدون على تحالفات مرحلية مع النظام السوري لمواجهة التهديدات المشتركة، خاصة من تركيا والجماعات الجهادية. ومع غياب هذا الدعم، يواجه الأكراد تحديات وجودية تتعلق بكيفية الحفاظ على مكاسبهم في ظل أطماع تركيا وتصاعد التوترات الإقليمية.
وروسيا، التي شكلت العمود الفقري لدعم النظام السوري، تواجه هي الأخرى تحديات جديدة مع سقوط الأسد. إن القواعد العسكرية الروسية المنتشرة في سوريا قد تصبح أهدافًا مباشرة للجماعات المسلحة، مما يضع موسكو أمام خيارات صعبة. فهل تعزز وجودها العسكري وتحمي مصالحها الاستراتيجية مهما كان الثمن؟ أم تنتهج سياسة انسحاب تدريجي يحد من خسائرها؟ هذه الأسئلة تضع الكرملين أمام اختبارات حاسمة في سياسته الشرق أوسطية.
نأتي إلى الولايات المتحدة، التي تبدو سياستها تجاه سوريا ضبابية إلى حد كبير. فالإدارة الأمريكية الجديدة أمام اختبار دقيق، إذ تحتاج إلى موازنة مصالحها في مواجهة النفوذ الإيراني، وتعزيز تحالفاتها مع الأكراد والفصائل المعتدلة لضمان عدم انهيار سوريا بالكامل في أيدي الجماعات المتطرفة. هذا بالإضافة إلى ضرورة العمل مع الحلفاء الإقليميين، مثل تركيا ودول الخليج، لضمان الاستقرار في منطقة لا تزال تعاني من تبعات سنوات طويلة من الحروب والصراعات.
وبرغم كل هذه التحديات، يبقى الحفاظ على وحدة الأراضي السورية هدفًا أساسيًا يحتاج إلى جهود دولية منسقة. إن سوريا لا يمكن أن تستعيد استقرارها إلا من خلال تسوية سياسية شاملة تأخذ في الاعتبار تطلعات كل مكونات الشعب السوري. هذه التسوية تتطلب بناء الثقة بين الأطراف المختلفة، وإعادة تفعيل المؤسسات الوطنية لتكون حاضنة للجميع، بعيدًا عن الاستقطابات السياسية أو الطائفية.
إن المرحلة القادمة تحمل في طياتها فرصًا وتحديات، ولكنها تعتمد بالدرجة الأولى على إرادة السوريين أنفسهم وقدرتهم على تجاوز خلافاتهم والعمل على بناء مستقبل جديد لبلادهم. في الوقت ذاته، يجب أن يتحمل المجتمع الدولي مسؤوليته في حماية سوريا من التدخلات الخارجية التي تهدد بتمزيقها، وضمان عدم تحويلها إلى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية. سوريا ليست مجرد ساحة صراع، بل وطن لشعب عانى بما يكفي، ومن حقه أن يحلم بوطن آمن ومستقر.