في ذكري حرب أكتوبر.. حكاية من بوتقة النار
علاء سحلول المصريين بالخارجكتب : د.أحمد سماحه
كان الصباح رماديـًا، وثمة ريح خفيفة تداعب إرهاق وجوهنا، ومياه القناة تتحرك مكتئبة تجاه الشط الآخر في تموجات متعاقبة، صمت يخيم علينا، يروح ويجئ في العيون التي تطالع الضفة المقابلة، عربات الجب تمرح على مرمى بصرنا، والجندي محمد الصعيدي يعض على نواجذه في غيظ، الحظة من بعيد يده تتشنج على زناد الرشاش، قلبي يدق بعنف، الأوامر مشددة والعصيان معناه الموت.
مرارة الهزيمة الحزيرانية مازالت عالقة والجرح أكبر من أن تخففه رصاصة أو رصاصتان أو عدة رصاصات ..اليوم هوعيد الأضحى.
انطلقت دمعتان إلى أسفل الوجه أين كف أمي الحاني؟ وتحية أبي مسحت وجهي بسرعة، كان محمد يهرع إلي مهرولا. ووجهه ملون من تأثير الغضب.. قال كلاما كثيرًا مضغومًا وهو يشير بيديه تجاه الشاطئ الآخر فهمت، ولكنني تجاهلت مايريد، أخذت بيده في حنو، غيرت موقع حراسته وذهبت وضعت منظاري ورحت أرقب ما يفعلونه..
ثلاث نساء ورجل واحد يستحمون ويحركون أيديهم تجاهنا في سوقية متعمدة، يبصقون علينا ويتبادلون القبلات، الفاجعة باتساع العمر، وشريط الذكريات المر يسرع متعاقبا في ذاكرتي، والسؤال المسنون الأطراف مغروسا في أعماقي اليست تلك أرضنا؟
أدرت وجهي منصرفًا، ولكن!.. ثلاث طلقات متعاقبة سمعتها مكتومة سمرتني في مكاني وعندما أعدت النظر ثانية وجدت ثلاث جثث تهوى إلى القاع ورجل يهرول ليلحق بعربة (جيب) واقفة لينطلق فيها.
عرفت، كان الجندي محمد الصعيدي مسمرًا في مكانه حينما جريت نحوه انتزعت رشاشه من يده. وانطلقت مسرعًا إلى مستودع الأسلحة نظفته على عجل ورجعت له أعطيته مع الرشاش ثلاث رصاصات نظرت اليه في عتاب نكس رأسه وصمت، نصف ساعة مرت إنطلقت بعدها حمم النار علينا جحيما من الغضب الكاره، والحقد العاصف.
بادلناهم التحية المره وحينما هدأت المدافع رحت أبحث عنه، كان أميا بالكاد يكتب تسمه، لا يضحك إلا لماما، وجدت كفاه محترقان وهو يقبض على ماسورة رشاشة المنصهرة، نظر إلى في رجاء قال بضع كلمات ما زلت أحفظها وأرددها دائما:(انت ما تعرفش غلاوة الأرض يا افندم أنا فلاح وعارف)..
كانت تلك الكلمات بلسما على صدري أيقنت أن ملامح نصر قادم تتشكل في صمت، أخذته من يده توضأنا وصلينا ثلاثة فروض انشغلنا عن أدائها ونحن في بوتقة النار.
ومضت السنون والجندي محمد الصعيدي في ذاكرتي يضيء ركنا منها لم تستطع مرارة البحث عن الوقت وسنوات الغربة وصراع المثقفين أن تطفئه.. ما زال متربعًا على عتبات القلب، ومازلت أراه ينظر إلى وهو يستشهد بعد أن استقبل في صدره شظية كانت في طريقها إلى وكأنه يقول لي: واحدة بواحدة..تذكرت (غلاوة الأرض) والثمن ..وجاء نصر أكتوبر ومحمد يعيش في وجداني.