مع عالمنا المصري العالمي الدكتور ”جمال مصطفى السعيد”
بهجت العبيدي المصريين بالخارج
أظل دائما على يقين بقدرة ذلك الرحم المصري في ولادة النوابغ في كافة مجالات الحياة، ويترسخ هذا اليقين يوما بعد يوم بتلك الإنجازات التي يحققها أبناء هذا الشعب العظيم، الذين يُضْرب بهم المثل في التفوق، ولم لا وهم أحفاد أعظم حضارة بشرية عبر التاريخ، تلك الحضارة التي كانت هي المصدر الذي ألهم، ليس أبناء الشعب المصري فحسب، بل ألهمت الإنسان في كل بقعة من بقاع العالم وفي كل عصر من عصوره.
وفي الحقيقة، فإنه رغم الفرحة العارمة التي تنتابني حينما يحقق أحد أبناء مصر تفوقا وتميزا ونجاحا، فإن كل ذلك لا يمثل مفاجأة لي من أي نوع، وذلك لإيماني المطلق في كفاءة العنصر المصري، وتميز العقلية المصرية، والتي رغم الصعوبات التي تواجهها فإنها تظل تضرب المثل وتقدم القدوة وتصنع النموذج الفذ.
ولعل ما تم الإعلان عنه من فوز صديقنا العالم الجليل الأستاذ الدكتور جمال مصطفى السعيد بالمركز الأول من خلال بحثه الذي كان قد تم تصنيفه ضمن قائمة أفضل عشرة بحوث على مستوى العالم في السنوات الخمس الأخيرة في مجال عدوى العمليات الجراحية خاصة وأن هذه القائمة تضمنت أساطين الطب في العالم إنما يعكس براعة الدكتور جمال السعيد من ناحية، كما يعكس مدى التقدم في مجال الطب لأطباء مصر النابهين من ناحية أخرى، كما يرد على المشككين في قدرات علماء مصر في الداخل من ناحية ثالثة.
وإننا هنا نؤكد على أن ما حققه العالم الكبير الدكتور جمال مصطفى السعيد إنما يأتي ضمن سلسلة النجاحات التي يحققها المصريون في المجالات المختلفة: العلمية والثقافية والرياضية، وإن كان هناك نماذجَ فذةً مثل الراحل الدكتور أحمد زويل والطبيب الشهير الدكتور مجدي يعقوب والمهندس هاني عازر والنجم محمد صلاح الذين برعوا جميعا خارج مصر، فإن عبقرية الإنسان المصري في الداخل تفرض نفسها على العالم كذلك، من خلال ما حققه الدكتور جمال مصطفى السعيد، والذي له نشاط ثقافي واجتماعي يمثل أوضح بل أروع تمثيل دور المثقف في العصر الحديث.
ولعله من المناسب أن أعلن أنني لم أومن يوما بأفضلية العصور القديمة على الحديثة أو المعاصرة، مع تقديري الفائق لكل ما نتج عن الماضي من فكر وعلم، ومع كل التبجيل الذي ربما أبالغ فيها مبالغة هائلة للعقول التي هيأت للحاضر ظهوره الراهن، وقدمت للإنسانية العلوم والفكر والثقافة التي هي، في تصورنا، بناء هرمي، لا يمكن أن يكون به قفزات مفسدة للبناء، أو لبنات مشوهة له.
أذكر دائما هؤلاء التنوريين في كل الثقافات بكل خير، مهما كان لهم من شطحات أو تجاوز يتسق مع العقول الفذة، فهل يمكنني ألا أن اختلف مع الفيلسوف الإنجليزي الكبير ديفيد هيوم الذي أنكر وجود الدين، في ذلك الوقت الذي أقدر فيه فلسفته والتي كان كل غايتها هي إيقاظ العقل الإنجليزي ومن ثم الأوروبي ومن بعد الإنساني من سباته العميق، ولعل الكلمة التي دونها في كتاب الموتى حينما أتت لحظة الفراق: صبرا أي شارون الطيب، فكل ما حاولته هو أن أفتح أعين الناس على بعض الخرافات، ليرد عليه الآخر قائلا: اركب الزورق من فورك، أتظن أني تاركك كل هذه مئات السنين، في إشارة لأن ما ينشده الفيلسوف الإنجليزي الكبير في أن يخلص العقل البشري من بعض الخرافات.
وإن كنت اذكر التنوريين بالخير كله، فلا يمكنني إلا أن اقف أمام رموز التنوير في مصر وعالمنا الغربي والإسلامي واقفا بكل الخشوع في محراب الفيلسوف الإسلامي الكبير جمال الدين الأفغاني ومن بعده الإمام محمد عبده وشيخ التنوريين طه حسين المفكر والأديب، ونجيب محفوظ شيخ الروائيين العرب، فهؤلاء خاضوا عباب بحر متلاطم الأمواج وساروا ضد تيار كاسح، مخلخلين ومحلحلين العقل العربي من حالة هي الموت أقرب منها من السبات.
ويظل في منظوري للمثقف دور، فإذا افتقدنا اليوم هذه القامات التي ذكرناها آنفا، ولم نتحصل على شخصيات ومفكرين بهذا الحجم، فكيف يتسق هذا مع ما ذكرته في أول هذا المقال، من عدم إيماني بأفضلية العصور القديمة أو المنقضية، إن دور المثقف عندي هو الذي يضبط هذه المعادلة التي يظن القارئ أنها تميل لصالح القديم، فمن هو بيننا الآن يقارب الأفغاني، ومن ذلك الذي يكون نظيرا لمحمد عبده، ومن يضاهي طه حسين، ومن ينادِدْ نجيب محفوظ؟.
الإجابة تأتي واضحة في مثل ما يقوم به صاحب هذا التفوق العالمي الذي ذكرناه آنفا، وهو الصديق العالم الطبيب نزهو به في محافل دولية، هو الأستاذ الدكتور جمال مصطفى السعيد أستاذ الأورام بجامعة القاهرة، والذي يعقد صالونا ثقافيا بعنوان صالون الجراح الثقافي، والذي كان لي شرف المشاركة في إحدى ندواته بدعوة كريمه من صاحبه.
إن صالون الجراح الثقافي يذكرنا أول ما يذكرنا بصالونين شهيرين لا يمكن لمصري أو عربي يزعم ارتباطا ولو بطرف بعيد بالثقافة إلا وكان قد تعرف عليهما، وهما صالون الأديبة الكبيرة مي زيادة وصالون عملاق الفكر والأدب عباس محمود العقاد.
إن لكل زمن قضاياه، ولكل عصر مشاغله، ولكل وقت أولوياته، ومن متابعتي الدقيقة فلقد لمست في صالون الجراح الثقافي انشغالا بقضايا زمنه، ومشاغل عصره، وأولويات وقته، وها هو في كل دورة له يعلن عن قضية هامة يعالجها من خلال متخصصين متميزين، وباستضافة مفكرين مصريين كبار، ويحرص كذلك على أن يشارك مثقفين على مستوى متميز ليضمن بذلك فائدة كبيرة تعود على المجتمع، وليسلط الضوء على تلك القضايا التي يمكن أن تمثل خطورة على المجتمع مرة، أو تلك التي لها فوائد غير منتبه إليها أخرى، ليقدم الدكتور جمال مصطفى السعيد بذلك نموذجا للعالم والمثقف العصري المشغول بقضايا مجتمعه فله منا كل التحية.