مذكرات مهاجر مجهول.. الجزء الثاني 18
اشرف علي يعقوب
و بعد عشرة ايام من رجوعي وصل الجهاز الى مستشفى مونتيبللونا مصحوبًا بعدد من كيت العوامل الكيميائية اللازمة. كان حدثاً كبيرًا في المستشفى الصغير. جاء كل مديري الاقسام و معظم الاطباء ليشاهدوا الجهاز الغريب المستقبلي الفضائي في مكانه بقسم المعامل. كان مدير قسم المعامل هو أكثر الناس فرحة و تأثراً. كان يشعر بالفخر لأن الجهاز كان هو الوحيد من نوعه في إيطاليا بل في اوروبا كلها.
كنت ممتن جداً لناكانو و شركته جيمرو، و لكني كنت ادرك تماما أن هدفهم هو عمل ابحاث علمية لاثبات اهمية بقايا الكولستيرول في تشخيص تصلب الشرايين و ذالك بهدف بيع الاجهزة و العوامل الكيميائية التي صرفوا علي انتاجها كثيراً من النقود.
لا أحد يعطي لك جهازاً مثل هذا بالمجان الا اذا كان له من وراء ذلك فائدة كبرى. و خاصة اليابانيون. و قد قال لي مدير التعاون الصحي الإيطالي الذي كنت اعمل معه في المستشفى الإيطالي في القاهرة أن كل برامج التعاون الدولي من أي دولة تنفذ بهدف اقتصادي بحت، و في النهاية يعود على المتبرع بفائدة اكبر بكثير مما يعود على المتبرع له. و ضرب لي مثلا ببرامج التعاون اليابانية مع الدول الفقيرة و هي على حد قوله هي أكثر برامج التعاون الموجهة جشعًا و ضراوة في العالم. قال أن الدولار الواحد الذي تتبرع به اليابان يعود اليها ١٨ دولار. تعود النقود المتبرع بها الى الدولة المتبرعة أضعافًا مضاعفة في صورة عقود و تسهيلات و احتكار مشروعات في الدول المتبرع لها.
و بدأت مسرعا في عمل الابحاث التي كنت قد اعددت بروتوكولاتها مسبقًا من زمن و كان لدي عملين واحد يتعلق بإثبات وجود كميات كبيرة من بقايا الكولستيرول في دماء مرضى غسيل الكلى و أن هذا يؤدي الى زيادة اصابتهم بأمراض تصلب الشرايين بنسبة عالية. اما الثاني فكان يتعلق بإثبات وجود كميات عالية من بقايا الكوليسترول في مرضى جلطات القلب الحادة و الذين تكون عندهم كميات طبيعية من الكولستيرول الكلي. و أن هذا هو ما يؤدي الى اصابتهم بمرض تصلب الشرايين المسبب لجلطات الشرايين التاجية في القلب برغم ان مستوى الكوليسترول الكلي لديهم طبيعي. كان البحث الاول يُعمل مع أخصائيي الكلى في وحدة غسيل الكلى و الثاني مع أخصائيي القلب بمستشفى مونتيبللونا. و كانوا في غاية السعادة لعمل هذه الابحاث الاولى في العالم من نوعها معي.
قدمت البحث الاول في مؤتمر تصلب الشرايين العالمي في اثينا في اليونان، و الثاني في مؤتمر جمعية امراض القلب الإيطالية في روما، و نالا استحسانًا كبيرًا.
بالطبع وصلت اخبار وصول الجهاز الياباني الى البروفيسور بانيان و يبدو أنه غضب جدًا لانني تجرأت على طلب جهاز متقدم كهذا و الحصول عليه والقيام بأبحاث في صلب تخصصه بدون علمه.
و حدث يومًا ما كنت أخاف منه اذ وصلتني مكالمة تليفونية من البروفيسور بانيان في مكتبي بمستشفى مونتيبللونا.
و بدون تحيات أو سلامات صرخ في التليفون : "أشرف، كيف جاءت لك الجرأة أن تقوم بكل هذا بدون أن تخبرني؟". قلت له: بروفيسور بانيان ، انا لم اعد بعد من أعضاء فريقك الآن و لي الحق أن أقوم بالأبحاث العلمية التي اريدها في حرية كاملة و بدون إخبار أحد". رد في حدة:"انت استغليت اسمي في اقناع اليابانيين بإعطائك هذا الجهاز. العمل على هذا الجهاز اكبر بكثير من قدراتك و قدرات مستشفى مونتيبللونا يا أشرف، هذا الجهاز مكانه الطبيعي هو مستشفى كاستل فرانكو التابع لجامعة بادوفا و هي الاقدر على استخدام هذا الجهاز في ابحاث يقوم بها عدد كبير من باحثي جامعة بادوفا". قلت له:" و لكن من درس و تعب و سافر لليابان و تعلم على هذا الجهاز هو انا، و ليس عندي مانع ان نعمل ابحاث مع جامعة بادوفا و لكن هنا في مستشفى مونتيبللونا ". قال:"لا يا أشرف، اريد أن يكون هذا الجهاز عندي هنا في كاستل فرانكو تحت يدي و امري انا، لقد قمت أشرف بالإحتيال و هذه الحيل تعملها في بلدك مصر مش هنا". قلت له:" لا اسمح لك بأن تهينني او تهين بلدي، ما فعلته و ما حصلت عليه كان بمجهودي و انتم لم تكونوا تعلمون حتى بوجود بقايا الكوليسترول هذه، فضلًا عن وجود هذا الجهاز الياباني ". و أخيرًا صرخ في و قال: "انت ايها البدوي الذي جاء من الصحراء تفعل بنا هذا؟ سوف اريك". و قفل السكة في وشي بحدة.
طبعًا ادركت انه هاج و ماج و توقعت انه سيفعل كل ما في وسعه لعقابي. لم يكن يستطيع أن يرفدني من عملي لأني كنت معين كموظف ميري في الحكومة الإيطالية و لا يمكن رفدي الا بسبب خطير جدًا، و لم تكن هنا أي مشاكل أو جرائم تعطي لهم الحق في فصلي و خاصة انني كنت محبوبًا جدا في مستشفى مونتيبللونا و محل ثقة رئيس قسمي الكاملة، و كان المساس بي هو خط أحمر كما قال لي هو نفسه بعد تلقيه مكالمة من البروفيسور بانيان.
و بعد يومين علمت من رئيس قسم التحاليل في مستشفى مونتيبللونا أن البروفيسور حضر بنفسه من بادوفا و شاهد الجهاز و طلب منه أن ينقل الجهاز لمستشفى كاستل فرانكو و لكنه رفض. قال لي أن البروفيسور بانيان استشاط غضباً و أخذ يلعن و يسب فيً و تركه و هو يهدد و يتوعد.
عرفت بعد ذلك أن البروفيسور بانيان تواصل مع جيمرو و ناكانو و شرح لهم أنني لم أعد أعمل معه، و انهم كان عليهم أن يرسلوا الجهاز له و ليس لي. و عرفت أيضًا انه طلب جهاز آخر منهم و لكنهم رفضوا و قالوا له انه عليه أن يتفق معي على الاستعمال المشترك للجهاز في مستشفى مونتيبللونا.
توقعت أيامًا صعبة و خفت أن يستطيع البروفيسور إيذائي بشكل او بآخر و هو الاستاذ الجامعي و الرجل الغني ذو النفوذ و في بلده و أنا لست إلا مهاجرًا مفلسًا على باب الله.
