بهجت العبيدي يكتب : التعليم يجعل أوروبا الأكثر أمانًا
كتب : بهجت العبيدي ـ كاتب ومفكر مصري مقيم بالنمسا ومؤسس الاتحاد العالمي للمواطن المصري
إن التطور الإنساني لا يأتي هكذا بضرب حظ، ولكنه نتيجة لتجارب متعاقبة يخوضها الإنسان، يصارع ف يها الطبيعة مرة، وأخاه الإنسان مرة أخرى، وغيره من المخلوقات مرة ثالثة، وهو في كل هذه التجارب يكتسب مخزونًا، وكأني به يسير مع الدم سيرًا، أو يتفاعل مع الجينات ليصبح جزءًا من الإنسان مرة أخرى.
استطاعت الدول الأوربية، بعدما مرت بفترة من الصراع والتناحر والحروب المهلكة، أن تصل إلى صيغ تضمن لأهلها والمقيمين فيها حياة كريمة، آمنة، لأنهم تعلموا، ليس من تجاربهم فحسب، بل من تجارب الآخرين، فبعدما بلووا الحروب، وتجَرَّعوا مرارتها، وخلَّفت ملايين القتلى وملايين الجرحى، وتركت البلاد خرابًا يباباً، نظر هؤلاء القوم العقلاء! ليجدوا بعد أن تلوثت أياديهم بالدماء، نفوسهم وقد ملأتها الحسرة والحزن والألم على ذلك، وأيقنوا أنه لابد من اتخاذ طريقًا جديدة، فاتخذوا قرارا لا رجعة فيه بتطليق الاستبداد طلاقًا بائنًا، والعمل من أجل الحياة، ونبذ العنف، وقهر الموت.
إن أهم شيء لجأ الأوربيون له هو العقل، فعلموا، يقينًا، أن ما يملأ ذهن الإنسان من أفكار وقناعات وإيمان هو الذي يحركه، ويدفعه للفعل، بهدف الوصول إلى ما يفكر فيه، وتحقيق ما يؤمن به، وتنفيذ ما يقتنع به، فإذا آمن العقل بفكرة التعايش المشترك، فإنه يسعى ويعمل على الحفاظ على القواسم المشتركة التي تجمعه بأخيه الإنسان، وهو ما احتاج الأوربيون أن يغرسوه في نفوس أبنائهم، فاهتموا بصناعة الإنسان بمفهومه الأشمل، الذي يصطبغ بالصفات الإنسانية، فحرَّم المجتمع الأوربي النظرة العنصرية، وكرَّه النظرة الطائفية، وجرَّم كل ما من شأنه أن يفرِّق بين أبناء مجتمعه على أسس طائفية أو عرقية أو مذهبية أو جنسية، تلك الفروقات التي تشحن المجتمع بالبغضاء، وتصبغ البلاد بالتعصب، وتملأ القلوب بالغل والحقد، فتُذْهِبُ منه الطمأنينة والسلام والمحبة.
كان التعليم هو السبيل الأول لكي يعيش المجتمع الأوربي في سلام وأمن، حيث عمل التعليم، في أوربا، على تحرير العقل من قيود ضيقة مازال يدور فيها في مجتمعات أخرى على رأسها وفي قمتها مجتمعاتنا العربية، حيث مازال الإنسان يُقيَّم حسب عقيدته مرة، وطائفتهأاخرى، ومكانته الاجتماعية ثالثة، وبيئته رابعة، ولونه خامسة، وكل ذلك يخلق حالة صراع تودي بالمجتمعات ذاتها، قبل أن تودي بحياة البشر منها.
لا يمكن أن تجد التعليم الأوربي، النمسا مثالا، متضمنا نظرة مُسْتَعْلِية، ولا يمكن أن تقرأ في أحد الكتب الدراسية ما يصب في خانة العنصرية، ولا تجد موضوعات منتقاة بحيث تُمَجِّد عنصرًا وتُحَقِّر آخر، لا من نفس أبناء المجتمع، ولا من الأجناس الأخرى في العالم، لقد استطاعوا أن ينتصروا للعقل وأن يعلوا المنطق، فاستقام الفهم، واستقامت معه الحياة التي تُعْلِي القيم الإنسانية، وتنبذ كل أنواع التعصب والطائفية، فانْتَفَتْ بالتبعية الصراعات، التي مازالت تعاني منها تلك الدول التي أهملت المفاهيم الصحيحة لقيم التعايش، وخلت برامج تعليمها من السمو بالعقل البشري الذي لن يحدث إلا بإعلاء تلك القيم.
هذا الإهمال الذي جعل منطقة كمنطقة الشرق الأوسط بتاريخها العريق تكون سببًا بأن يصبح في كل عام أقل سلامًا وأكثر خطرًا من العام السابق، في ظل الصراعات المشتعلة في منطقة الشرق الأوسط، وأزمة تدفق اللاجئين، والهجمات الإرهابية التي تطال بقاع الأرض المختلفة.
وعلى الجانب الآخر المشرق الذي عمل من أجل التعايش والسلام لأبناء وطنه، فلم يذهب عمله سدىً، بل أحيى صانعيه في سلام وأمن وهذا ما يؤكده مؤشر السلام العالمي حيث يضع العديد من الدول الأوربية على رأس تلك الدول التي تنعم بالسلام.


















