القضاء التجاري الدولي ودوره في تشجيع الاستثمار الدولي وصون حقوق المستثمرين
بقلم : المستشار محمد علوان
يعتبر الاستثمار دعامة أساسية للتنمية، لكونه يشكل إضافة إلى الطاقة الإنتاجية، والزيادة في الثروات لما لذلك من أثر في إشباع الحاجات وتوفير الخدمات.
كما أنه يحتاج إلى مناخ يجلبه، ولاشك أن تحقيق الأمن القانوني والقضائي يساهم إيجابيا في ذلك، فالمستثمر - سواء كان وطنيا أو أجنبيا - ومهما كانت المبادرات التشجيعية المنصوص عليها في التشريعات والأنظمة، فإنه لا يغامر إلا إذا تحقق من وجود قضاء مستقل وفعال يترجم النصوص بما يحقق العدل والمساواة ضمانة استمرارية أنشطته التجارية.
إن الأمن القانوني يعني توفير المناخ القانوني السليم للاستثمار وإيجاد الآليات القانونية المحفزة على الاستثمار، وسيادة دولة القانون في ميدان الأعمال.
وإذا كان المستثمر الوطني أو الأجنبي يبحث دائما عن الفعالية والسرعة والأمن والثقة في كون المعاملات التجارية التي ستنفذ بوضوح وأنه في حالة وقوع نزاع بشأنها فإن هناك آليات قانونية تضمن حماية حقوقه، وعليه فإن المستثمر قبل القيام بأي مبادرة بشأن الاستثمار يبحث عن المعطيات الآتية:
- الضمانات القانونية والقضائية الممنوحة للمستثمر.
- القوانين المنظمة لقطاع الاستثمار.
- الضمانات القانونية التي تنظم الشراكة بين الفاعلين الاقتصاديين الوطني والأجانب.
- مدى انخراط الدولة في الاتفاقات الدولية المتعلقة بالاستثمار.
- الامتيازات التي يمنحها قانون الاستثمار للمستثمرين الأجانب سواء من حيث الإعفاءات الضريبية أو الجمركية أو رسوم التسجيل.
- قانون الصرف وما يخوله للمستثمر الأجنبي من إمكانية تحويل الأموال المستثمرة والأرباح الناتجة عنها إلى الخارج.
- التسهيلات التي تمنحها الدولة من أجل الاستفادة من الأراضي الواقعة في المناطق الصناعية.
إن القضاء التجاري والتحكيم الدولي أصبح مطلوب اكثر من أي وقت مضى، ومطالبا بالانفتاح على محيطه الخارجي والاطلاع على تجارب قضائية وثقافات قانونية أخرى، رغبة في تطوير واستيعاب ميكانيزمات العمل التجاري الحديث حتى يصبح قادرا على إيجاد الحلول المناسبة لما قد يعرض عليه من منازعات تجارية تهم مجال الاستثمار ومن ثم يكون فاعلا أساسيا في خلق مناخ سليم يسوده الاطمئنان والثقة والاستقرار ويشكل دعامة قوية لعملية التنمية وتشجيع الاستثمار.
وحتى يقوم القضاء التجاري المتخصص بالدور المنوط به لاسيما في التحفيز على الاستثمار والمساهمة في خلق النشاطات الاقتصادية عليه أن يضمن أمن المستثمرين ويصون حقوقهم في ظل سيادة القانون واستقلال القضاء، سواء كانوا وطنيين أو أجانب، إذ لا استثمار بدون ضمانات قضائية واضحة.
إن التحديات التي يتعين على القاضي التجاري أن يأخذها بعين الاعتبار هو ضرورة انفتاحه على المحيط الخارجي وعدم الاكتفاء بالتكوين القانوني وإنما الاهتمام بمسائل الاقتصاد والمحاسبة والشؤون المالية والتجارة الدولية والإعلاميات.
وبالتالي فإنه لا يمكن لهذا القاضي أن يقوم بذلك إلا بتمكينه من جميع الوسائل العلمية والتكنولوجيا في مجال الاتصال قصد البحث في القانون الدولي والاجتهاد القضائي المقارن لمسايرة التطورات والاتفاقيات الدولية حتى يلعب القضاء التجاري دورا مهما في بلورة اجتهاد قضائي وطني مستقل وإيجاد حلول عملية وواقعية بدلا من التشبث بحرفية النص.
وإلى جانب القضاء التجاري هناك التحكيم التجاري - سواء كان على الصعيد الوطني أو الدولي- من أهم الوسائل المطمئنة للمستثمر، وعلى هذا الأساس تم تعديل المقتضيات المتعلقة بالتحكيم الواردة بمقتضى القانون ٢٧ لسنة ١٩٩٤ المتعلق بالتحكيم وبمقتضيات جديدة لاسيما فيما يخص التحكيم الدولي.
إذ بواسطته يتمكن الأطراف من اختيار حكم ومكان التحكيم والقاعدة القانونية المطبقة أو دون التقيد بها مما يدل على أن القانون المصري وكذلك قوانين معظم الدول قد كرست قاعدة الوسائل البديلة لحل المنازعات التجارية عندما نظمت التحكيم الدولي والوساطة الاتفاقية وأصبحت شريطة أساسية لاستقطاب الإستثمارات الأجنبية.
إن المنازعات الناتجة عن عقود الاستثمار تعتبر ناتجا بالضرورة عما يواكب بالضرورة نمو اقتصاد السوق، يستوجب فض المنازعات توفير الآليات الضرورية، وكما سبقت الإشارة إلى ذلك فإنه يتعين التشجيع على الوسائل البديلة لما فيها من تخفيف العبء على القضاء التجاري ومن آثار إيجابية على توفير المناخ الملائم للاستثمار وتوفير الأمن القضائي في ميدان الاستثمار.
وفي هذا الإطار اتخذت المحاكم الدولية ولجان التشريع الدولي عدة تدابير تهدف إلى إصلاح الإطار القانوني والمؤسساتي للاستثمار وتشجيع المبادرة للمستثمرين الوطنيين والأجانب حيث تم العمل على تحسين فرص جاذبية الاستثمار من خلال اتخاذ إجراءات اقتصادية وقانونية ومؤسساتية.
وعليه، سنعالج هذه التدابير من خلال تحديد مفهوم الاستثمار وعلاقته بالقضاء.
وهنا نتناول تعريف الاستثمار سواء من الناحية الاقتصادية أو القانونية وموقف الاتفاقات الدولية والثنائية والقوانين الداخلية والقوانين الدولية.
إن مفهوم الاستثمار يعد مفهوما واسعا، لأنه يشمل العديد من الأنشطة المرتبطة بالجوانب الاقتصادية، والتي لا يمكن أن تتحدد طبيعتها الاستثمارية بالنظر إلى مجموعة من المعايير الأساسية، كمدة استمرار النشاط ودورية الأرباح والنتائج ومدى وجود مخاطر اقتصادية والتزامات مهمة، فضلا عن أهمية المشروع في تحقيق التنمية والتطور في الدولة المستقبلة للاستثمار.
وهكذا يعتبر الاستثمار في نظر رجال الاقتصاد عملية من عمليات استغلال رأس المال بهدف تحقيق عائد أو فائض مالي، وقد اختلفوا في وضع تعريف له، حيث يذهب جانب منهم إلى أن الاستثمار هو صافي الإضافة الحاصلة إلى مجمل ثروة المجتمع التي تتحقق إذا لم يستهلك الدخل الجاري بأكمله.
فالاستثمار الرأسمالي هو النقود التي تنفق على خلق أصول إنتاجية ثابتة جديدة وتجديد وتوسيع الأصول الثابتة القائمة، بينما يذهب جانب آخر من الاقتصاديين إلى وضع تعريف له حيث يبقى في نظرهم سوى الخلـق أوالبناء أو شراء الأموال والتجهيزات الصناعية والمواد والأشياء الأخرى المماثلة، وبعبارة أخرى فإن الاستثمارات تميل إلى زيادة رأس المال الثابت للمشروع.
ويذهب "كينز" إلى أن الاستثمار هو زيادة في المعدات الرأسمالية حيث إن هذه الزيادة تحمل على رأس المال الثابت ورأس المال السائل.
والملاحظ أن التعريفات المختلفة للاستثمار في نظر رجال الاقتصاد تدور حول الهدف من عملية الاستثمار.
أما من وجهة نظر القانونيين، فإن جل التعريفات للاستثمار وبالخصوص الاستثمار الأجنبي تركزت على تحرك رؤوس الأموال من بلد إلى بلد بغير تنظيم مباشر، وقد ركز البعض منهم على عنصر الربح واعتبروه ركنا أساسيا في أي تعريف غير أن هناك فريق آخر ارتأى أن بعض الاستثمارات الأجنبية قد لا تستهدف الربح مباشرة أو الربح بذاته وإنما تساعد في إنشاء وتشغيل مشروعات في البلد المستفيد "المستثمر فيه" وهذه المشروعات هي التي تحقق الربح.
وهنا نعرف الاستثمار على ضوء الاتفاقات الدولية وكذا الثنائية:
حيث ذهبت الاتفاقية الموحدة لاستثمار رؤوس الأموال العربية في الدول العربية الموقعة في تونس 1982 إلى تعريف الاستثمار بأنه استخدم رأس المال العربي في إحدى مجالات التنمية الاقتصادية بهدف تحقيق عائد في إقليم دولة طرف في الاتفاقية.
أما مشروع اتفاقية المؤسسة العربية لضمان الاستثمار فقد عنت الاستثمارات المباشرة بما في ذلك المشروعات وفروعها ووكالاتها وملكية الحصص والعقارات والاستثمارات الحافظة بما في ذلك ملكية الأسهم والسندات وكذلك القروض التي يتجاوز أصلها ثلاث سنوات أو القروض ذات الأجل القصير التي يقرر المجلس على سبيل الاستثناء صلاحيتها للتأمين.
وبالنسبة لاتفاقية واشنطن ، فإن الهدف الأساسي من وجودها هو المساعدة على تحقيق التنمية والتطور الاقتصاديين بحيث جاءت من أجل توفير مناخ للاستثمارات الدولية ووفقا للمادة الثالثة من القسم الثاني من اتفاقية البنك الدولي بإنشاء الوكالة الدولية لضمان الاستثمار تشمل عبارة الاستثمار المساهمة في الأصول سواء أكانت مساهمة نقدية أو غير نقدية وإعادة استثمار الأرباح.
وبالنسبة للمغرب، فقد أصدر المشرع سنة 1995 مدونة الاستثمارات أقر من خلالها المبادئ الأساسية للامتيازات الضريبية والإدارية المقدمة للمستثمرين المحليين والأجانب، وفتح عبرها المجال اللجوء إلى التحكيم في إطار اتفاقيات الاستثمار التي توقعها الحكومة المغربية.
فبالإضافة إلى الضمانات الخاصة بالتشريع الوطني تمنح الدول الراغبة في جلب الاستثمارات الأجنبية للمستثمرين ضمانات قانونية دولية أهمها الاتفاقيات الثنائية للاستثمار التي تتضمن مقتضيات موضوعية وإجرائية لحماية المستثمرين والتي يفوق عددها على الصعيد العالمي 2200 اتفاقية.
وإن من أهم الضمانات القانونية لحماية الاستثمار الأجنبي والوطني، هو توفير قضاء متخصص وسريع لحل المنازعات المرتبطة بالاستثمار، بالإضافة إلى ضرورة وجود وسائل بديلة لحل المنازعات ويأتي في مقدمتها التحكيم التجاري والوساطة الاتفاقية.
وعلى هذا الأساس، سنتطرق إلى دور المحاكم التجارية في قضايا الاستثمار ومجالات اختصاصها من خلال الغرف التجارية في توحيد الاجتهاد القضائي المتعلق بقضايا الاستثمار، لنخلص إلى الحديث عن دور التحكيم التجاري في تشجيع المستثمرين على الاستثمار.
دور المحاكم التجارية في قضايا الاستثمار هو تحقيق عدالة سريعة وفعالة تشكل دعامة قوية لعملية التنمية وتشجيع الاستثمار، لذلك نرى لزاما أن نتحدث عن تجربة المحاكم التجارية في المنازعات التجارية من خلال خصوصياتها ومجالات تدخلها.
وإن من أهم التدابير المتخذة هو دور المحاكم التجارية في المنازعات التجارية من أجل تشجيع الاستثمار وحمايته هو إيجاد هيآت قضائية متخصصة للبت في المنازعات التجارية، ومنذ إحداثها قامت بدور هام في مجال البت في تلك المنازعات سواء من حيث السرعة أو من حيث مستوى الأحكام الصادرة بشأنها ويدل على أهمية هذه المحاكم نشاطها المتزايد وارتفاع نسبة عدد القضايا المسجلة بالمحكمة التجارية.
وكما هو معلوم، فإن المحاكم التجارية أصبحت لها صلاحيات اقتصادية هامة، تتعدى دورها الكلاسيكي في مجرد الحكم بالأداء لتشمل البت في مصير الاستثمار او المقاولة.
إن من جملة القضايا التي لها علاقة بميدان الاستثمار نجد قضايا حماية الملكية الصناعية والتجارية، وقضايا النقل البحري والجوي الدوليين للبضائع وقضايا الاعتماد المستندي والتي تبرز بحق أهمية هذه المحاكم في تحقيق الأمن القضائي.
ومن أهم الخصوصيات المسطّرة أمام المحاكم التجارية ما يلي:
- إحالة الملف على القاضي المقرر المعين من طرف رئيس المحكمة داخل أجل محدد (24 ساعة)، ووجوب تحديد تاريخ النطق بالحكم وتحريره كاملا قبل النطق به.
- تقصير أجل الأحكام الصادرة عن المحكمة التجارية وحصره في 15 يوما وإحالة الملف على المحكمة التجارية خلال أجل أقصاه خمسة عشر يوما ابتداء من تاريخ تقديم الطعن.
- أصبح القاضي المقرر ملزما عند تطبيق الحكم المقرر بإحالة القضية من جديد إلى الجلسة داخل أجل لا يتعدى ثلاثة أشهر.
- تحديد آجال قصيرة للطعن في المقررات الصادرة في معالجة صعوبات المقاولة.
- إمكانية منح تعويض مسبق من طرف المحكمة إذا كان الدين ثابتا مقابل ضمانات عينية أو شخصية كافية.
- استئناف الأوامر بالأداء لا يوقف التنفيذ.
- منحت مواد القانون رقم ٢٧ لسنة ١٩٩٤ صلاحيات واسعة لرئيس المحكمة التجارية بصفته قاضي المستعجلات لاتخاذ التدابير التحفظية ولو كانت هناك منازعة جدية بين الأطراف.
وإلى جانب هذه الخصوصيات، فقد أولى القانون رقم ٢٧ لسنة ١٩٩٤ أهمية خاصة لتنفيذ الأحكام تتمثل في حصر إجراءات التبليغ والتنفيذ داخل آجال قصيرة ومعقولة وتخويل رئيس المحكمة التجارية وباقتراح من الجمعية العمومية للمحكمة تعيين قاض مكلف بمتابعة إجراءات التنفيذ وهي إجراءات الهدف منها تحقيق عدالة حقيقية وسريعة، إذ لا يمكن تصور قضاء قوي دون أن يكون فعالا، 《فلا فائدة ترجى من حكم يصدر يبقى بدون تنفيذ》.
وهكذا يتضح من خلال سرد الخصوصيات أعلاه أهمية المحاكم التجارية الدولية للبت في المسائل التجارية بالسرعة والفعالية المطلوبتين في ميدان الأعمال التجارية وقضايا الاستثمار.
مؤكدين في عدة مناسبات على دور التحكيم التجاري الدولي والقضاء التجاري الدولي كمحفز أساسي للنمو، ولاسيما في دعم مشاريع المقاولات الصغرى والمتوسطة، كما ينبغي مواصلة الجهود لتحديث إدارة العدل ومراجعة احكام التسوية التوفيقية لما قد ينشا من منازعات بين التجار، وذلك لتمكينهم من اللجوء أكثر ما يمكن إلى التحكيم".
وفي الختام لابد من الإشارة إلى أن كل هذه المجهودات سواء على صعيد القضاء أو على صعيد التحكيم وكذا الوساطة الاتفاقية تهدف إلى توفير الإطار القانوني السليم المرن لممارسة الأعمال وضمان المناخ الملائم للاستثمار وسيادة الأمن القانوني في الحياة التجارية.


















