النجوم والعلماء : المكانة غير المكانة مهما اختلفت الشهرة
بقلم : بهجت العبيدي
هناك العديد من المقارنات التي يقوم بها الناس، والمقارنات يجب أن تكون في محلها، حتى يتضح الهدف منها مرة، وحتى تؤدي المطلوب منها مرة أخرى، فحينما نقارن ظاهرة بظاهرة؛ فلابد أن يكون قد تم دراسة الظاهرتين دراسة دقيقة لتصبح المقارنة موضوعية، وألا يكون هناك أسباب ـ غير الظاهرتين أنفسهما ـ لعقد هذه المقارنة.
تنتشر دائمًا المقارنة بين النجوم في كل المجالات والعلماء أو أصحاب المهن "المميزة" كأساتذة الجامعة والأطباء والمهندسين والمدرسين والمحامين، وهي مقارنة تهدف لإظهار الأمر كحالة عبثيةوتصدير حالة إحباط عامة في المجتمع.
الحقيقة : المقارنة في غير محلها، فمن حيث الشهرة: فالبسطاء في كل الشعوب لا يهتمون بأخبار العلماء بقدر ما يهتمون بأخبار النجوم في المجالات المختلفة من فنية أو رياضية على وجه التحديد؛ ذلك أن الأول يعبر عنهم، والثاني يفرغ طاقة داخلهم.
ومن حيث المال : وهو مرتبط بما سبق، فإن اهتمام عوام الشعوب بهؤلاء النجوم يجعلهم مادة تجارية يستثمر فيها رجال المال، ومن ثم يتم تقييم النجم بمدى ارتباط الجمهور به، وهو ما يحدد سعر هذا النجم، الذي يتحول إلى سلعة.
دائمًا ما يتردد على الألسنة أن الإعلام هو ما يصنع ذلك، وهذا ليس كله صحيح، هذا الذي يعني أن بعضه صحيح، فلو افترضنا أن الإعلام خصص مساحة كبيرة جدا للعلماء وغيرهم من أصحاب المهن التي ذكرناها آنفا، فإنهم لن يصبحوا نجومًا تتسابق العوام في مشاهدتهم، نظرا لصعوبة المادة التي يقدمها هؤلاء العلماء؛ والتي ليس مطلوبًا من العوام، بل من الأكاديميين، فهمها، فهل يمكن أن يهتم الغالبية العظمى ـ العوام ـ في أية أمة بالنظرية النسبية لأينشتاين، أو يستوعب هؤلاء العوام نظرية التطور، أو أن يكون الثقب الأسود بالكون محل اهتمام لهؤلاء؟ أو يكون الانفجار الكبير مثار مناقشة منهم؟ بالطبع لا، ومن هنا فإنه لا يمكن أن يتم تحويل هؤلاء العلماء إلى سلع، وأن يتم تسويق أخبارهم، وأن ينتظر المشاهد أو القارئ معرفة زواج هذا العالم أو طلاقه أو معرفة تفاصيل حياته مثلما يحدث للنجوم في مجالات الفن والرياضة.
طبعًا هذا لا يعني بكل تأكيد رفضنا لأن يخصص مساحات للبرامج الجادة في وسائل الإعلام يتم من خلالها إلقاء الضوء على المتميزين من العلماء، والمتفوقين في كافة المجالات.
ومع ذلك فإن المجتمع ـ من خلال عقله الجمعي ـ يقدر العلماء وأساتذة الجامعة أيما تقدير، ولا يمكن أن ينظر لهم كسلعة من السلع كما ينظر للنجوم، فهم الذين يعود إليهم المجتمع في الملمات، وهم الذين يستمع لهم في الأحداث الجسام، وهم الذين ينتظر رأيهم في المواضع التي هي في حاجة إلى رأي مدروس، وعقل راجح، وفكر متزن.
إن المجتمع يضع العلماء والمفكرين وغيرهم ممن يناط بهم نهضة الأمة في المكانة اللائقة بهم في مخيلته الجمعية، لأنهم لا يخضعونهم السوق الذي يحدد سعرهم، بل يخضعون المجتمع كله لهم: حينما ينتظرون منهم أن ينقلوه من حال إلى حال.
إنني أظن أن المجتمع سيرضى كل الرضا وهو يرى تقدير العلماء والمفكرين والمواهب الفذة من الدولة ذاتها، بالتأكيد أن الغالبية العظمى من أبناء المجتمع ترى أن الواجب يحتم على الدولة أن ترعى علماءها ومفكريها وأفذاذها، كما هو حادث في أية دولة متقدمة، عكس ما يحدث في الكثير من الأحيان في دولنا؛ التي لم تخصص بعد للعالم ما يليق من المكانة، ولم تهيئ له من العطاء ما يجعله يعمل وهو خال الذهن من تلك المنغصات التي يسعى الإنسان العادي للتخلص منها بالسعي على الرزق في ظروف قاسية، فليس معقولًا أن يطلب من أصحاب العقول الكبيرة، أن تستهلكها في بحث عن لقمة عيش، أو تحسين لمستوى معيشة، أو توفير حاجيات الحياة اليومية. ذلك الذي يفقدنا عبقرية تلك العقول، ويهدر على المجتمع أهم طاقاته على الإطلاق.
فأنا حينما أتأمل في حال عالم بحجم جمال حمدان رحمه الله؛ الذي مات في غرفة كان يقيم بها فوق سطح إحدى البنايات؛ بعد أن اعتزل الحياة، أدرك كم كان الألم يعتصر قلب هذا العالم الفذ المذبوح.
إن جمال حمدان يمثل صرخة الأفذاذ في كل مجتمع لم يقدر عبقريتهم، في كل مجتمع اهتم بالهزيل من الثقافة، والتافه من الموهبة فقدمها على العلماء، واحتفى بها بديلًا عن احتفائه بمن يستحقون.
إن تقدير العلماء وتحفيز الباحثين، لهو أقل شيء يمكن أن تقدمه الدولة لهؤلاء المنوط بهم الارتقاء بالأمم، والتقدم بالدول، وما من دولة ولا مجتمع يستطيع أن يضع قدمًا في دنيا الحضارة والتحضر والعلم، إلا إذا بجَّل عملاءه ووفر لهم الحياة الكريمة، وأتاح للبحث الوسائل المطلوبة والميزانيات المناسبة.
ليس معقولًا ولا مقبولًا أن يكون أستاذ الجامعة الذي أفنى عمره في التحصيل والدرس والبحث أقل دخلًا من بعض ممن لم يتحصلوا على أية شهادة، وليس مهضومًا أن يعاني طبيب أو مهندس أو مدرس شظف العيش في ذات الوقت الذي ينعم فيه من هم دونهم بحياة الرفاهية، فهذا إن توفر في مجتمع، فهو مجتمع يسير على رأسه ويفكر بقدميه، وهو مجتمع به من الخلل ما لا يحتاج إلى أعين لتبصره، لأنه يزكم الأنوف، وتتعثر به الأقدام في الطريق، هذا الخلل الذي لن يقوم للمجتمع قائمة ما لم يتم إصلاحه، ومن ثم تُضْبَط منظومته.
من الأهمية بمكان أن تهتم الدولة بأساتذة الجامعة اهتماما يضمن لهم حياة راقية، وأن تعمل الدولة على أن تضمن لبعض المتخصصين مثل الأطباء والمهندسين والمدرسين حياة طيبة، وهذا أمر طبيعي، يجب أن يكون من البديهيات؛ ويجب أن تعمل على توفير تلك الحياة أية دولة، تسعى لأن تضع نفسها في مصاف الدول المتقدمة.


















