×
15 جمادى آخر 1447
5 ديسمبر 2025
المصريين بالخارج
رئيس مجلس الإدارة: فوزي بدوي

محاكمات هزت وجدان المصريين

محاكمات هزت وجدان المصريين
محاكمات هزت وجدان المصريين

بقلم : د.ماهر جبر - استاذ قانون التجارة الدولية ورئيس قسم القانون بكلية العمارة الجامعة بمحافظة ميسان العراقية


في صفحات التاريخ المصري كثير من المحاكمات التي نالت اهتمام العامة، وهزت وجدانهم ، حتى أنهم خرجوا في الشوارع يتغنون بأسماء أصحابها، أو بما يشير إليهم من قريب أو بعيد خوفًا من سلطان جائر، أو مستعمر غاشم، نذكر من هؤلاء وهم كثير، محمد كريم حاكم الاسكندرية أيام الحملة الفرنسية على مصر، سليمان الحلبي قاتل كليبر قائد الحملة الفرنسية، ابراهيم الورداني قاتل بطرس باشا غالي (جد بطرس غالي الأمين العام للأمم المتحدة)، والأخوين عبد الحميد،وعبد الفتاح عنايت قاتلي السير لي ستاك الحاكم العام الانجليزي. بل وأشهر هذه المحاكمات على الإطلاق، محاكمة زهران ورفاقه أبطال دنشواي.


إلا أن المحاكمات التي هزت وجدان المصريين ، ليست بالضرورة لأشخاص مصريين، فمحاكمة جميلة بوحريد المناضلة الجزائرية هزت وجدان المصريين، ومحاكمة القائد الليبي العظيم عمر المختار هزت أيضاً وجدان المصريين، لذا سأتناول هذه الأسماء اللامعة، وما حدث لهم في هذه المحاكمات في سلسلة من المقالات، مراعياً فيها عامل الزمن من حيث الترتيب التاريخي من الأقدم للأحدث، مما يوجب علي البدء بزعيمنا العظيم، محمد كريم.


محمد كريم ( حاكم الإسكندرية الأعظم )
ما تم تدريسه لنا من تاريخ مصر لم يكن الا قشوراً خارجية ، تعطيك بعض الملامح البسيطة عن الشخصية التي يحدثك عنها، وكأن ذلك مقصوداً، حتى نفتقد القدوة والمثل الأعلى، فكل ما نعرفه عن محمد كريم أنه حاكم الاسكندرية الذي أُعدم لمقاومته الحملة الفرنسية، وقائدها نابليون بونابرت، أو مقولته الشهيرة للمصريين اللذين احتشدوا ليروه في مشهد أخير وهو يصلب ( اليوم لي وغد لكم )، لكن ظلت تفاصيل الواقعة وما حدث معه مجهولاً، مما جعلنا نحاول الكشف عنها، فمعرفة دقائق الأمور وماتم من حوارات بينه وبين جلاديه، ترينا كم كان هذا الرجل عظيماً في كل شيء، حتى في لحظة أن ساقوه لكي يذبح، رافعاً رأسه، متمتماً بالشهادتين، مؤكداً أنه لن يموت، بل سيبقى ويذهب جلادوه الى الجحيم، فلنروي الآن ما حدث.
 

نحن الآن في منتصف القرن الثامن عشر، حيث مدينة الاسكندرية وعبق التاريخ يُطل من كل نوافذها ومبانيها، تلك المدينة الرابضة على شاطئ البحر منذ ما يقرب من ألفي عام، وقت أن بناها الاسكندر حوالي عام ثلاثمائة قبل الميلاد، هادئة جميلة، مقصد التجار من كل حدب وصوب، ولد محمد كريم يتيماً في حي الأنفوشي، فكفله عمه، وعندما كبر قليلاً افتتح له دكاناً، الا أنه كان مولعاً بالتعليم، فأخذ يتردد على المساجد ليحضر دروس العلم، وعلى تجمعات الناس ليتحدث فيهم حتى أصبح خطيباً مفوهاً، فولاه مراد بك الجمرك في الاسكندرية، وحسنت سيرته فأحبه الناس وتعلقوا به، وبات مسموع الكلمة في المدينة وبمثابة حاكمها.


في هذا الوقت اتجهت الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت الى مصر وكل أملها أن تتخذ منها قاعدة في الشرق تستطيع عن طريقها تعويض ما خسرته في حروبها مع غريمتها الأولى بريطانيا، ولكي تقطع طريق الإمدادات بينها وبين مستعمراتها في الهند.
وصلت طلائع الحملة الفرنسية الى شواطئ الاسكندرية في يوليو 1798م، فاستنجد محمد كريم بالمماليك في القاهرة ( مراد بك، ابراهيم بك )، ونزلت القوات الفرنسية الى شواطئ العجمي في الاسكندرية، وقاد محمد كريم المقاومة رغم قلة الجنود والمعدات، واحتمى بقلعة قايتباي ومعه جنوده، وظل يحارب الفرنسيين حتى نفذت ذخيرته، وبعد القبض عليه أُعجب نابليون بشجاعته، فأعطاه سلاحه قائلاً له، ( لقد أخذتك والسلاح في يدك، وكان لي أن أعاملك معاملة الأسير، ولكنك استبسلت في الدفاع بشجاعة، ولما كنت أعُد الشجاعة عنصراً لا ينفصل عن الشرف، فإنني لا يسعني إلا أن أُعيد اليك سلاحك، آملاً أن تبدي للجمهورية الفرنسية من الإخلاص، ما كنت تبديه لحكومة رديئة )، وأمر برسم صورة لمحمد كريم يحتفظ بها، وفي محاولة لاستمالته أبقاه حاكماً على المدينة ومعه كليبر حاكماً عسكرياً، الا أن ذلك لم ينسي محمد كريم أنه الحاكم الفعلي للإسكندرية، وأن هؤلاء الفرنسيين لا حق لهم فيها، فزادت دعوته لمقاومة الفرنسيين انتشارا، وراسل مراد بك مرة ثانية قائلاً له ( ان العمارة التي حضرت مراكب عديدة، ما لها أول يُعرف، ولا آخر يُوصف، لله ورسوله أدركنا بالرجال )، وقامت الثورة في المدينة، وقبض عليه ثانية في 20 يوليو 1798م، وتم ارساله الى القاهرة لتتم محاكمته، فكيف تمت المحاكمة ؟.


يقول الجبرتي ( وصلت السفينة المقلة لمحمد كريم الى شاطئ بولاق يوم 12 أغسطس 1798م، ونقلوه ليلاً حتى لا تعُم المظاهرات القاهرة، اذا علم أهلها بمجيئه، وكانت المحكمة مشكلة من أربعة من الضباط الفرنسيين، يرأسهم الحاكم العام للقاهرة، الجنرال ديبوي، وتم تعيين مترجم بين أعضاء المحكمة، محمد كريم، وعلى بعد قليل من المنصة التي يجلس عليها أعضاء المحكمة كان محمد كريم يجلس ثابت الجنان ونادى حاجب المحكمة باللغة الفرنسية ”فتحت الجلسة  ”وبدأ في استجواب الزعيم محمد كريم -: وسأله الجنرال ديبوى  ً لقد أثبت التحقيق أنك خائن ولست أهلاً للثقة التي منحها لك القائد العام. وأنك حرضت الناس وأهل البحيرة على الثورة ضد الجمهورية، فرد محمد كريم ( إن الجمهورية هي التي خانت مبادئها واغتصبت- وطنى وقتلت الناس بلا شفقة ولا رحمة ،لا لذنب سوى أنهم  يدافعون عن بلادهم ونسائهم و أموالهم، لقد حطمتم سجنكم الباستيل في 14 يوليو 1789وأنقذتم أنفسكم من طغيان ملوككم وأعلنتموها  ثورة على الظالمين ثم ناديتم بشعاركم حرية ومساواة وإخاء، ولكنكم سرعان ما تنكرتم لهذا الشعار، ونسيتم ما قمتم من أجله عندما دان لكم النصر وتملكتكم شهوة الطمع والاغتصاب فانطلقتم من بلادكم  وحرياتها وأصبح شعاركم الموت للشعوب والحياة لفرنسا وحدها) وساد الصمت المكان عندما حذره ديبوي بأن كلامه هذا سيقوده حتماً للإعدام، فرد عليه محمد كريم  في جرأة، اذا كان دفاعي عن بلادي و قول الحق سيقودني للموت فمرحبا به، فالموت حق، والاستشهاد في سبيل الوطن غاية الشعوب الحرة التي تأبى الظلم و ترفض الاستعباد، وأن كان قيامي بتحريض الشعب عليكم يعد خيانة منى، فما أعظمه من خيانة ، مادامت ستحرر مصر من قبضتكم وسيطرتكم الغاشمة،  ثم هب واقفاً في عصبية ظاهرة و قال ” إن إيماننا بالله يفرض علينا أن نحب وطننا ونضحى في سبيل مساعدته وتطهيره من الغاصبين بدمائنا وأرواحنا، فحب الوطن من الايمان كما قال نبينا صلوات الله عليه وسلامه ، وأن ما قمت به ضدكم هو تنفيذ لتعاليم ديننا الحنيف وأنكم اليوم بمحاكمتكم تسجلون على أنفسكم في صفحات التاريخ أنكم قتلة سفاحون ، وأن شعاركم الذى ناديتم به يوم ثورتكم ما كان الا ستاراً زائفاً تخفون وراءه نياتكم الشريرة و أطماعكم نحو الشعوب الآمنة المطمئنة.أنكم ستؤكدون للعالم بموقفكم هذا وبمحاكمتكم لي ،أننا شعب عظيم ننشد الحرية ونضحى في سبيلها بالنفس والنفيس، وأن التاريخ سيخلد إسمي وأسماء المجاهدين من بعدى. 

ازداد غضب ديبوي أكثر من كلام محمد كريم، ومد يده وأخرج من حفنة الاوراق التي أمامه رسالة لوح بها ل ”محمد كريم انها بخط يدك أرسلتها ضدنا الى قصر مراد بك وفيها تحرضه ضدنا وهذا أثبات لا يقبل النقاش أو المراوغة . فرد عليه محمد كريم نعم أنها رسالتي وقد كتبتها بخط يدى استغيث به لقتالكم، وطردكم من بلادي وان دفاعي ضدكم يوم نزلتم الى بلدى يبرهن لكم على اننى لا اقيم وزنا لحياتي ، وإذا كنت آسف على شيء فليس أسفى أننى لم أنجح في مقاومتكم، بل لأنني اعتمدت على هذا المملوك المغرور الذى لولا غروره و جهله لما كنت اليوم ملقياً بين أيديكم .


تأجلت المحاكمة لليوم التالي لإكمال الحوار وسماع الاقوال،  وكان رد محمد كريم الاخير ” ستؤكدون للعالم بموقفكم هذا وبمحاكمتكم لي انكم ظلمة كما ستثبتون أننا أمة تبغى الحرية و تضحى في سبيلها   بكل ما تملك وسوف، يخلد التاريخ اسم مجاهدين رفعوا السلاح ضد أعداء الحرية من أجل الحفاظ على حرية وطنهم.
 

ويذكر الجبرتي أن نابليون توجه لرؤية خط سير المحاكمة، ولم يسع نابليون إلا أن أوحى إلى المجلس العسكري الذى شكل لمحاكمة محمد كريم، أن يحكم عليه بالقتل رمياً بالرصاص، مع مصادرة أمواله و أملاكه، على أن يكون له الحق في افتداء نفسه بثلاثين ألف ريال وكان أن نفذ المجلس العسكري قرارات بونابرت، وهنا أكثر من رواية في هذه الحادثة، إحداها تقول أنه بعد القبض علي الزعيم محمد كريم تم الحكم عليه بالإعدام، ولكن نابليون بونابارت أرسل له وأحضره وقال له:. ( يعز علي أن أعدم رجلاً لأنه كان يدافع عن بلاده، أنت خصمي وعدوي ولكني أحترمك رغم كل شيء، ولا أريد أن يكتب التاريخ عني أني كنت أعدم أبطالاً يدافعون عن بلادهم، ولذلك فقد عفوت عنك مقابل غرامة عشرة ألاف قطعة ذهبية تعويضاً للجيش الفرنسي، فقال محمد كريم ليس معي مال ..ولكن لي ديون مستحقه عند التجار تتجاوز المائة ألف قطعة ذهبية، فقال له نابليون سمحت لك بتحصيل ديونك فأذهب للسوق وأحضر لي الفدية، فكان محمد كريم ينزل للسوق كل يوم مغلولاً في قيوده وفي حراسة الجند الفرنسيين فيطوفون به علي دكاكين التجار واحداً تلو الآخر ويطالبهم بسداد بعض ما عندهم من ديون له ليدفع الفدية، ولكن لم يستجب له تاجر واحد بل وأنكروا عليه مقاومته للفرنسيين، وبعد عدة أيام عاد محمد كريم لنابليون بونابارت خالي الوفاض وليس معه قطعة ذهب واحدة، فقال له نابليون آسف أني مضطر لإعدام بطل باسل مثلك، ولكني لا أعدمك لأنك قاومتنا ودافعت عن بلادك ولكني أعدمك لأنك كنت تبذل حياتك دفاعا عن مثل هؤلاء التجار الجبناء.


والرواية الأخرى ذكرت أن محمد كريم عندما سمع الحكم” عليه قال لقضاته الفرنسيين لحظة أيها القوم ، أما حياتي فلست متمسكاً بها، ولا حريصاً عليها فهي منتهية  في وقتها المحدد لها وقد قال الله في كتابنا العزيز ” قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا “ كما قال ” فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون “وواصل محمد كريم أقواله ” أما أموالى فلتعلموا أننى ما أدخرتها لاشترى بها رحمتكم وأفتدى بها نفسى من الموت على أيديكم ولكنني أعددتها لحربكم وتنغيصكم إذا قدر لي أن أعيش، وإذا مت فسيحمل علم الجهاد من بعدى أيد فتية و نفوس مخلصة، ستجدون منها الأهوال وستخرجون على أيديهم من بلادنا أذلاء مهزومين إن عاجلاً أو آجلاً. لم يأبه محمد كريم بالحكم الصادر ضده، وقال فانتور لمحمد كريم ”  أنك رجل غنى ، فماذا يضيرك أن تفتدى نفسك بهذا المبلغ …”-: فرد عليه محمد كريم في إباء و شمم بقوله “ إذا كان مقدور على أن أموت فلا يعصمني من الموت أن أدفع هذا المبلغ، وان كان مقدراً لي الحياة فعلام أدفعه ً. كما حاول القنصل الفرنسي ماجلون أيضا مع محمد كريم في افتداء نفسه ولكنه قوبل بالرفض، وعلم نابليون أن محمد كريم لن تلين قناته فأمر بأعدامه فوراً.


ويقدم لنا الجبرتى وصفاً لمشهد إعدام الشهيد محمد كريم قائلاً ” فلما قرب الظهر وقد إنقضى الاجل أركبوه حماراً ، وأحاط به عدد من العسكر و بأيديهم السيوف المسلولة ويتقدمهم طبل يضربون عليها وشقوا به الصليبية إلى أن ذهبوا إلى الرميلة، وقاموا بقيده وكتفوه وربطوه مشبوحاً، وضربوا عليه بالبنادق كعادتهم فيمن يقتلونه، ثم قطعوا رأسه ورفعوه على نبوت وطافوا به جهات الرميلة، والمنادى يقول، هذا جزاء من يخالف الفرنسيس“ولقد كانت اخر كلماته قبل أطلاق الرصاص عليه من جانب الفرنسيين موجهة للمصريين وهى : كونوا مثلاً ” للتضحية .. اصمدوا فى وجه المستعمر وقاوموا جبروته وطغيانه مهما كان العنف والعناء “ وتلقف اتباعه رأسه مهللين الله اكبر ودفنوها مع جثته فى إحدى الترب التى كانت موجودة خلف جامع المحمودية بالقلعة، والكل بين وجوم وحزن وألم دفين، وهناك من يقول بأن رأس الشهيد دفنت فى المنطقة الواقعة بين المكس” والقبارى على طريق السكة الحديد .. حيث أطلق عليه الاهالى مقام سيدى كريم. 


ماذا نعرف وماذا يعرف أبنائنا عن هذا البطل العظيم، ألا يجدر بنا أن تكون هذه هي النماذج التي نقدمها لهم كي تكون قدوة ومثلاً يُحتذى به، ألا يجب أن يكون هؤلاء الأعلام جزء من المناهج التي يدرسها الطلاب ، وأن يكون هناك مادة تحوي سيرتهم، ويتم تدريسها خلال مراحل التعليم كافة.
لنا لقاء مع محاكمة أخرى هذت وجدان المصريين.

 

استطلاع الرأي

أسعار الذهب

متوسط سعر الذهب اليوم بالصاغة بالجنيه المصري
الوحدة والعيار الأسعار بالجنيه المصري
عيار 24 بيع 3,566 شراء 3,589
عيار 22 بيع 3,269 شراء 3,290
عيار 21 بيع 3,120 شراء 3,140
عيار 18 بيع 2,674 شراء 2,691
الاونصة بيع 110,894 شراء 111,605
الجنيه الذهب بيع 24,960 شراء 25,120
الكيلو بيع 3,565,714 شراء 3,588,571
سعر الذهب بمحلات الصاغة تختلف بين منطقة وأخرى

مواقيت الصلاة

الجمعة 06:31 مـ
15 جمادى آخر 1447 هـ 05 ديسمبر 2025 م
مصر
الفجر 05:04
الشروق 06:36
الظهر 11:45
العصر 14:36
المغرب 16:55
العشاء 18:17