الدكرورى يتكلم عن الجد والإجتهاد
بقلم : محمــــد الدكـــــرورى
إن القلب ليحزن حينما يري الشباب وهم في أعز قواهم العقلية والجسدية ومع ذلك يفني الشباب قوته وشبابه في الفراغ وفي كل ما حرم الله تبارك وتعالي من ملاهٍ ومشارب وخمور ومجون وغير ذلك؛ ولو لم يكن الإنسان في حاجة إلى العمل، لا هو ولا أسرته، لكان عليه أن يعمل للمجتمع الذي يعيش فيه فإن المجتمع يعطيه، فلابد أن يأخذ منه، على قدر ما عنده
ولقد خلق اللهُ البشر في هذه الدنيا، وأنشأهم من الأرض واستعمرهم فيها، وتتعاقب على هذا الاستخلاف الأمم والأجيال إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ومن هنا فإن كلَ قصد من عمارة الأرض كما أمر الله عز وجل فهو توجه محمود، وكلَ عمل في هذا السبيل من الأعمال الصالحات، وكلَ مجهود في سبيل الحق سعي مبرور
ويُروى أن رجلاً مر على أبي الدرداء رضي الله عنه فوجده يغرس جوزة، وهو في شيخوخته وهرمه، فقال له: أتغرس هذه الجوزة وأنت شيخ كبير، وهي لا تثمر إلا بعد كذا وكذا عاماً ؟! فقال أبو الدرداء: وما عليَ أن يكون لي أجرها ويأكل منها غيري ، وأكثر من ذلك أن المسلم لا يعمل لنفع المجتمع الإنساني فحسب، بل يعمل لنفع الأحياء، حتى الحيوان والطير، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ” مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ” رواه البخاري
وإن أثر العمل ليس قاصراً على الكفاف والاغتناء عن الناس فقط، بل يعتبره الإسلام تكفيراً عن الذنوب، فقد قال بعض السلف: إن من الذنوب ذنوباً لا يكفرها إلا الهم في طلب المعيشة
ولقد حث الإسلام على السعي والكسب من أجل الرزق؛ قال تعالي: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ) سورة الملك
ويقرر الإسلام أن حياة الإيمان بدون عمل هي عقيم كحياة شجر بلا ثمر ، فهي حياة تثير المقت الكبير لدي واهب الحياة الذي يريدها خصبة منتجة كثيرة الثمرات.؛ فالإسلام لا يعرف سناً للتقاعد، بل يجب على المسلم أن يكون وحدة إنتاجية طالماً هو على قيد الحياة، ما دام قادراً على العمل، بل إن قيام الساعة لا ينبغي أن يحول بينه وبين القيام بعمل منتج، وفي ذلك يدفعنا النبي صلى الله عليه وسلم دفعاً إلى حقل العمل وعدم الركود والكسل
فيقول صلى الله عليه وسلم : ” إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليغرسها فله بذلك أجر” وكما حث الإسلام على اتخاذ المهنة للكسب مهما كانت دنيئة فهي خير من المسألة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:” لَأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَتَصَدَّقَ مِنْهُ فَيَسْتَغْنِيَ بِهِ عَنْ النَّاسِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ رَجُلًا أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ ذَلِكَ فَإِنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا أَفْضَلُ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ” رواه الترمذي
فلا بد من ارتفاع الهممِ، ونفضِ غبارِ الكسل، وإنك لا تكاد ترى سبباً لأنواع البطالات المكشوفة والمقنعة إلا سقوطَ الهمة، وفتورَ العزيمة، فالرجل إنما يترك الجد في طلب العمل، ويتهاونُ في السعي من أجل الرزق، حين تنحطُ همته، وتصغرُ نفسه، أما من شمَّر عن الساعدِ وضرب في الأرضِ ابتغاء فضل الله، فطرق الأبواب، وسلك المسالكَ، واستسهل كلَ صعب من أجل معالي الأمور، فهو الجدير بالحياة الكريمة، تأسياً بعظماء الرجال
فينبغي للعاقل أن ينتهي إلى غاية ما يمكنه، فلو كان يُتصور للآدمي صعودُ السموات لرأيتُ من أقبح النقائص رضاه بالأرض، ولو كانت النبوة تحصلُ بالاجتهاد رأيتُ المقصرَ في تحصيلها في حضيض، غير أنه إذا لم يمكن ذلك فينبغي أن يطلب الممكن، والسيرة الجميلة عند الحكماء خروجُ النفس إلى غاية كمالها الممكن لها في العلم والعمل. لذلك كان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يهتم بالعمل والترغيب فيه فيقول: ما من موضع يأتيني الموت فيه أحب إلىَّ من موطن أتسوق فيه لأهلي أبيع وأشتري، وكان إذا رأي فتى أعجبه حاله سأل عنه: هل له من حرفة ؟ فإن قيل : لا. سقط من عينيه ، وكان إذا مدح بحضرته أحد سأل عنه : هل له من عمل؟ فإن قيل : نعم ، قال : إنه يستحق المدح ، وإن قالوا : لا، قال : ليس بذاك ، وكان يوصي الفقراء والأغنياء معاً بأن يتعلموا المهنة ويقول تبريرا لذلك ، فإنه يوشك أن يحتاج أحدكم إلى مهنة، وإن كان من الأغنياء
وكان كلما مر برجل جالس في الشارع أمام بيته لا عمل له أخذه وضربه بالدرة وساقه إلى العمل وهو يقول: إن الله يكره الرجل الفارغ لا في عمل الدنيا ولا في عمل الآخرة ، ومما أثر عن لقمان الحكيم أنه قال لابنه ” يا بني استغن بالكسب الحلال عن الفقر فإنه ما أفتقر أحد قط إلا أصابه ثلاثُ خصال: رقةُ في دينه، وضعفٌ في عقله، وذهاب مروءته
ومما أوصى به قيس بن عاصم أولاده : “عليكم بالمال واصطناعه فإنه منبهةُ الكريم، ويستغنى به عن اللئيم، وإياكم والمسألة فإنها آخر كسب الرجل ”، وقال عمر رضي الله عنه: “مكسبةُ في دناءة خيرٌ من سؤال الناس” ، وعنه رضي الله عنه قال:” إن الله خلق الأيدي لتعمل فإن لم تجد في الطاعة عملا وجدت في المعصية أعمالا “ وكان سعيد بن المسيب رحمه الله يتاجر بالزيت ويقول: والله ما للرغبة في الدنيا ولكن أصونُ نفسي وأصل رحمي ”، وكان إبراهيم بن أدهم إذا قيل له : كيف أنت ؟ قال : بخير ما لم يتحمل مؤنتي غيري
وإن أجسام الناس ما هي إلا آلات يجب إعمالها وعدم تعطيلها وإلا دمرها العجز والخور والشلل ، وصارت إلى الموت البطئ والاسترخاء والصدأ، وتحولت إلى أداة تعويق للحياة الاجتماعية ونموها، بدلاً من أن تكون أداة قوة ونماء وازدهار، وهذا ما كان يغرسه الرسول صلى الله عليه وسلم في نفوس أصحابه حينما يتوجع أحدهم أو يتمارض أو يركن إلى الخمول والكسل، معتمدا في ذلك على صدقات المحسنين، مع قدرته على الكسب والعمل
فإذا جاءَ أحدُهم إليه صلى الله عليه وسلم يسألُه مالاً، وكانَ قوياً على العملِ وجهَّه إلى العملِ وحثَّه عليه، وبيَّن له أن العملَ مهما كانَ محتقراً في أعينِ الناسِ فهو أشرفُ للإنسانِ من التسولِ والمسألةِ، ومما يُروى في ذلكَ أن رجلاً من الأنصارِ أتى النبيَ صلى الله عليه وسلم يسألُه، فقال: " أما في بيتك شيءٌ؟ " قال: بلى، حِلسٌ نلبسُ بعضَه، ونبسُط بعضَه، وقَعبٌ نَشربُ فيه الماءَ، قال: ائتني بهما
قالَ: فأتاه بهما، فأخذَهما رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بيده، وقالَ: " من يشتري هذين؟" قالَ رجلٌ: أنا آخذهما بدرهمٍ، قالَ: "من يزيدُ على درهمٍ؟" "مرتينِ أو ثلاثاً"، قالَ رجلٌ: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين، وأعطاهما الأنصاري وقالَ: "اشتر بأحدهما طعاماً فأنبذه إلى أهلك، واشتر بالآخرِ قَدوماً فأتني به " . فأتاه به، فشدَّ فيه صلى الله عليه وسلم عوداً بيده، ثم قالَ: " اذهب فاحتطِب وبع، ولا أرينَّكَ خمسةَ عشرَ يوماً" ، فذهبَ الرجلُ يَحتطبُ ويبيعُ، فجاءَ وقد أصابَ عشرةَ دراهمٍ، فاشترى ببعضِها ثوباً وببعضِها طعاماً، فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "هذا خيرٌ لك من أن تجيءَ المسألةُ نكتةً في وجهكَ يومَ القيامةِ، إن المسألةَ لا تصلحُ إلا لثلاثةٍ، لذي فقرٍ مُدقِعٍ، أو لذي غُرمٍ مُفظِعٍ، أو لذي دَمٍ مُوجعٍ " رواه أبو داودَ والترمذيِّ
فالرسول صلى الله عليه وسلم لقن هذا الرجل درساً لا ينساه ، وبهذا سد الرسول صلى الله عليه وسلم باباً من أبواب الكسل والتواكل، فلو أن الرسول أعطاه من الصدقة لفتح بذلك الباب على مصراعيه للكسالى والمتواكلين، ولأصبحت هذه مهنتهم كما هي مهنة الكثيرين في هذا العصر
وما يرى من أمثال هؤلاء في الموصلات والشوارع والطرقات لأقوى دليل على ذلك، لهذا كله حرم الإسلام البطالة والكسل والركود لأن ذلك يؤدي إلى انحطاط في جميع مجالات الحياة، فإنه يؤدي إلى هبوط الإنتاج، وتخلف الأمة، وانتشار الفوضي، وكثرة المتواكلين، إضافة إلى المذاق الغير الطبيعي للقمة العيش وخاصة إذا حصل عليها الكسول من عرق جبين غيره
فينبغي على الفرد أن يعمل ليأكل من كسب يده لأنه أفضل أنواع الكسب، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “ما أكل أحدٌ طعامًا قطّ خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإنّ نبي الله داود كان يأكل من عمل يده” رواه البخارى


















