×
15 جمادى آخر 1447
5 ديسمبر 2025
المصريين بالخارج
رئيس مجلس الإدارة: فوزي بدوي

فن التربيع الشعري بين الحكمة والمعاصرة

فن التربيع الشعري بين الحكمة والمعاصرة
فن التربيع الشعري بين الحكمة والمعاصرة


قراءة نقدية في ديوان "جواني" الشاعر محمد المساعيدي
 

بقلم سيد فاروق

توطئة:

فن الواو أو ما يعرف بالمربعات: هو فن صعيدي المنشأ في الأصل وحصل على امتياز حقوق الملكية الفكرية للجنوب، ظهر في عصور حكم المماليك ظهورا لافتا وأبدع فيه شاعر الصعيد أحمد ابن عروس آن ذاك والذي ولد عام 1780م وهو من إقليم قوص بجنوب الصعيد وهو أسلوب شعري بديع شبيه بالموشحات الأندلسية، يمتاز بسهولة في استخدام الكلمات والتورية والكلمة التي تدل على أكثر من معنى وهو فن يتكئ على الجناس بنوعية .

بيد أنَّ عبد الرحمن الأبنودى له مقولة  أن فن الرباعى الشعرى " فن الواو و الرباعيات " انتقل اٍلى مصر من المغرب العربى و أنه كان معروفا هناك قبل الشيخ عبد الرحمن المجدوب، بينما تؤكد الحقائق التاريخية أن المصريين قد عرفوا فنون التربيع الشعرى التى تأتى على شكل أربعة أشطر كالمواليا الرباعى والدوبيت من العراقيين منذ القرن السادس الهجرى، وابتكروا منها أنواعا جديدة فقد ذكر ابن خلدون المؤرخ العربى الأوّل الذى تجوّل بين مصر و بلاد المغرب العربى " ولد فى تونس سنة 732 هجرية و توفى فى القاهرة807هجرية " فى مقدمته أنه ( كان لعامة بغداد فن من الشعر يسمونه مواليا انبثق منه فنون كثيره يسمون منها القوما و الكان وكان، منه مفرد و منه فى بيتين، و يسمونه الدوبيت، على الاختلافات المعتبرة عندهم فى كل واحد منها، وغالبها مزدوجة من أربعة شطرات، وتبعهم فى ذلك أهل مصر القاهرة و أتوا فيها بالغرائب، و تجاوزوا فيها من أساليب البلاغة بمقتضى لغتهم الحضرية و جاؤا بالعجائب "(1).

ولقب بن عروس لقب به الكثير من الشعراء حتى العام الثاني عشر الهجري وسمى ابن عروس لأن أمه تزوجت بعد وفاة أبيه و حملته معها اٍلى دار زوجها، .

والجدير بالذكر أنَّ فن الدوبيت هو فارسى الأصل "ويسميه بعضهم بالرباعية"(2).
و مصطلح الدوبيت معناه البيتان و هو مكون من مقطعين المقطع الأول دو ويعنى اثنين بالفارسية والمقطع الثانى "بيت" باللغة العربية، و يتميّز فن الدوبيت بأن كل نص منه يأتى مستقلا بذاته ولا يرتبط بغيره، واٍن كان صفّى الدين الحلّى فى كتابه العاطل الحالى والمرخّص الغالى أكد على أن الدوبيت من الفنون الشعرية التى تأتى معربة دائما ولا يجوز فيها اللحن، فاٍن ابن خلدون قد أشار فى مقدمته اٍلى أن الدوبيت يمكن أن يأتى غير معرب، و هذه حقيقة انتبه اٍليها العديد من الدراسين المحدثين و أتوا بنماذج من فن الدوبيت اعتراها اللحن و زحفت عليها العامية، و فى ذلك قال عمرو باشا موسى فى كتاب الأدب فى عصر الدول المتتابعة "لم يعد غريبا أن يدرس الباحثون المحدثون الدوبيت ضمن فنون الشعر غيرالمعرب"(3).

ويعد فن الواو أحد أشكال الدوبيت والمربعات الذي عرفه المصريون و يتفق فيه الشطر الأول مع الشطر الثالث فى قافية واحدة، كما يشترك الشطر الثانى و الشطر الرابع فى قافية مغايرة (4).

وقد أبدع المصريون فى فنون التربيع الشعرى التى عرفوها من أهل بغداد و أتوا فيها بالجديد و الغريب، وابتكروا فن الواو باعتباره أحد تجليات فنون التربيع وعرفوه قبل ابن عروس المصرى، و قد ذكر مصطفى صادق الرافعى فى الجزء الثانى من تاريخ آداب العرب "اٍن ظرفاء المصريين يقولون فى الفنون السبعة التى نكتب تاريخها : الفنون السبعة و تتمتها و يقصدون بالتتمة فن الواو"(5).

أما عن ديوان " جواني" للشاعر محمد المساعيدي وهو شاعر صعيدي الأصل والمنشأ، فأول ما يطالعنا من عتبات هو العنوان وسيتم تناوله بشي من التفصيل .

العنوان:
*****
باعتبار العنوان (بؤرة النص) (6)، أو " مفتاح دلالي " (7)، وهو يمثل أقصى اقتصاد لغوي في النص الأدبي ، يختزن مكونات النص ويحرك المتلقي باتجاه تحفيزه في دخول تلك المكونات مع دلالاتها بوصفه -العنوان- " بنية صغرى لا تعمل باستقلال تام عن البنية الكبرى التي تحتها، فالعنوان بهذه الكينونة - بنية افتقار يغتني بما يتصل به من قصة، رواية، قصيدة، ويؤلف معها وحدة سردية على المستوى الدلالي " (8).

يطلق الشاعر محمد المساعيدي عنوانا لديوانه " جواني " وقد ورد في المعجم الوسيط عن معنى الجواني "جَوَّانيُّ الشيء : باطِنه .
وضِدُّهُ : البَرَّانِيُّ"(9).

وفي حديث سَلمان الفارسي وهو موقوف: في النهاية للشيخ الطوسي: ١ج / ٣١٩ " إن لكل امرئ جوانيا وبرانيا، فمن يصلح جوانيه يصلح الله برانيه، ومن يفسد جوانيه يفسد الله برانيه، أي باطنا وظاهرا، وسرا وعلانية، وهو منسوب إلى جو البيت وهو داخله، وزيادة الألف والنون للتأكيد "، وقال في ج ١ / ١١٧ "... أراد بالبراني العلانية، والألف والنون من زيادات النسب كما قالوا في صنعاء: صنعاني. (10).

وارتكازًا على ما سبق: فإن عنوان ديوان " جواني " يوشي بأن الشاعر يكتب من داخل وجدانه ليعبر عن مكنون الذات الشاعرة وما يعتريها من إحساس في دواخل نفسه بدفقات شعورية تخرج عن السليقة والتلقائية الطبيعية غير المتكلفة هذا من جهة، ومن آخرى فإن كلمة جواني ربما أرد بها الشاعر قلب الجنوب صعيد مصر وكما نقول في اللغة الدارجة " الصعيد الجواني " وهكذا يكتب الشاعر ما يغبر عن دواخلة في صورة انتمائية للأصل والمنشأ الذي خرج منه، وبهذا يستثير حافظة المتلقي لمعرفة ماهية " جواني " وحقيقة المعنى المراد من ورائها.

أما العنوان الفرعي "مربعات المساعيدي" فنلاحظ في هذا العنوان أنَّ الشاعر استعاض عن المؤشر التجنيسي بالعنوان باعتباره أولى المواجهات مع القارئ ليستحضر الملتقي في أفق انتظاره ويستدعي في ذاكرته كل ما يتعلق بالموروث الثقافي لهذا النمط الفني المُقدِم على قراءته وهو "فن المربعات" بكل أشكاله؛

وهنا مزج الشاعر بين أيقونة العنوان وأيقونة التصنيف التي عادة ما تأتي منفرة بعيدا عن العنوان وهو عنوان مباشر لكنه مثير للجدل، ولعد ما يثير استفهام القارئ في العنوانة نسبته للشاعر " مربعات المساعيدي " ليتساءل المتلقي عن ماهية المربعات التي نسبت عمدا لكاتبها، وهل "مربعات المساعيدي" تختلف عن المربعات المتعارف عليها؟ ؛

أم هي مربعات لفن الواو المنتسب للجنوب والذي ينتسب الشاعر إليه أيضًا، وبهذا يثير العنوان لدى المتلقي عدة تساؤلات عن ماهية تلك المربعات المنسوبة للمساعيدي، تثير هذه التساءلات حافظة المتلقي للمضي قدمًا في سبر أغوار النصوص الإبداعية داخل الديوان للوقوف على تجربة الشاعر ومعرفة كنهاها وماهيتها.

بيد أن الشاعر محمد المساعيدي استعاض عن العنونة الرىيسية بالعناوين الفرعية داخل الديوان فنرى أنه في العناوين الفرعية عمد إلى استخدام بعض العناوين المباشرة وعناوين أخرى مراوغة لا تسلم نفسها بسهولة للمتلقي أما الثالثة وهو العناوين الاستفهامية التي يضعة الشاعر في مستهل القصيدة ، ومن أمثلة تلك العناوين: " كفاية جلد - قعوف النخل - الملجمة - قلب الطيبين - حصة التعبير - وإيه يعني؟ " مما يثير حافظة القارئ لمعرفة ما واء هذه العناوين وما تخبئه من تجربة إبداعية، ويضعه بين ضفاف الإغواء والإغراء لقراءة هذه النصوص المثيرة.

لمحات فنية:

*******
بالمطالعة في ديوان "جواني" وفي أول قصيدة والمعنونة "كفاية جلد" والتي يقول فيها:

وحياة الورد ال مش ناوي
يطرح على خدك من تاني
أنا عمري ماكنت ف يوم حاوي
ولا عمريش كنت ف يوم جاني
لو تهت يا غالية أنا ف حدودك
أسرق من عينك عنواني
حنية قلبك وحشتني
والقسوة ف طبعك وحشاني
*********
ولا صبت الحلم بخرطوشه
ولا قلت حروفك مغشوشه
ولا قلت غيطانك مرشوشه
وتمللي بشوفك في الكوشه
ولا قلت شعورك منكوشه
في القلب ملامحك منقوشة
وطريقك دايما مفروشه " ودروبك "
بعبير المسك الرباني .....
*****

نلاحظ في القطعة السابقة أنها احتوت على عدة أنماط شعرية ما بين مربعات فن الواو في البداية نلاحظ الجناس الناقص في البيت الأول والتالث ما في الكلمتين "ناوي - حاوي" وكذا في البيت الثاني والرابع في الكلمتين " تاني - جاني " وهذا النمط هو أحد أشكال الدوبيت و المربعات عرفه المصريون و يتفق فيه الشطر الأول مع الشطر الثالث فى قافية واحدة، كما يشترك الشطر الثانى و الشطر الرابع فى قافية مغايرة مثل هذا الدوبيت الذي كتب عليه الشاعر المصرى ابن سناء الملك "550 ـ 608هجرية "
القلب على جفاك لا يصطبر يا غصن رطيب
و الكسر بلا عطفك ينجبر أفديك يا طيب ) (11).

وهنا يتفق الشاعر محمد المساعيدي في المربع الأول مع الموروث الشعبي للمربع الشعرى الذى توافرات فيه مواصفات فن الواو من حيث الوزن و القافية والتورية بيد أنه لم يكن معروف بهذا الاسم في نشأته لكنه سمي بعد ذلك بفن الواو ؛
أما المربع الثاني في قصيدة "كفاية جلد"

لو تهت يا غالية أنا ف حدودك
أسرق من عينك عنواني
حنية قلبك وحشتني
والقسوة ف طبعك وحشاني

نلاحظ خروج عن ما يعرف بفن الواو فهي تأخد نمط المواليا ويسمي بالأعرج أو الرباعية الناقصة أو الخصي وعادة ما يأتي هذا النمط متوافق القافية في الشطرات الأول والثاني والرابع ويتحرر الشطر الثالث من القافية وهي أحد اشكال الدوبيت أيضا كما يلاحظ أن الشاعر محمد المساعيدي عمد إلى استخدام القافية الثلاثية في البيتين الثاني والرابع " عنواني – وحشاني " لتتفق مع الشطر الثاني والرابع للمربع الأول لفن الواو ليحافظ على وحدة البنية المعمارية في القصيدة اجمالًا .

ثم في منتصف القصيدة نلاحظ وجود الموال السباعي وهو أحد الأشكال التي طوَّرها المصريون في فن الزجل الأندلسى و ابتكروا منه نوعا جديدا هو البلّيق و طوّروا المواليا الرباعى و ابتكروا الموّال المصرى بنوعيه الخماسى و السباعى والذي يقول عنه الكاتب شهاب الدين الحجازي المصري مؤلف كتاب (سفينة الملك): (إن أول من نطق بالموال هم أهل (واسط) في العراق .

والموال يتألف من سبعة أشطر .
يأتي الشطر الأول والثاني والثالث والسابع على قافية واحدة ..
والرابع والخامس والسادس على قافية أخرى ..
الثلاثة الأولى تسمى (المطلع) ..
الثلاثة الثانية تسمى (العرجة) ..
المقطع الثالث يسمى (القفلة أو الطباقة) (12).

وهو الذي تتفق فيه القوافي في الشطرات السبع كما في الكلمات "خرطوشه - مغشوشه - مرشوشه - الكوشه - منكوشه - منقوشه - مفروشه" ثم يثمن بالقافية الثلاثية الأصلية للقصيدة " بعبير المسك الرباني " ثم يترك العنان للفكرة ويسترسل قائلًا:

وأنا طول العمر أكيد صابر
ولا كنت بعافر وبكابر
وبقول القسوه دي شيء عابر
فأرجوكي
كفايه جلد في الجته
معدشي فيه خلاص حته
تقضي لسعة الكرباج
وانا يا حببتي مش محتاج
غير الرحمه وحبة صبر
ولما تفتتي عظامي
تلميهم في أيها قبر
ولو حبيتي تنعيني
بلاش نعيك يكون بالحبر ...
**********

وهنا نالاحظ أنَّ باقي القصيدة تتحرر تماما من أنماط الدوبيت والموال السباعي إلى فضاء الزجل العامي الرحب حيث اتسمت بالعمق وسيطرة الفكرة على الذات الشاعرة فخرجت بإيقاعها المطبوع داخليًّا وخارجيًّا وبرع في تسليم الجمل بكلمات مموسقة يعلو فيها أصوات الإيقاع النغمي كما في الشطر الثاني " وأنا طول العمر أكيد صابر ... ولا كنت بعافر وبكابر " كما استخدم عدة قوافي بجانب القافية الرئيسية الباء والراء " الجته - حته - الكرباج - محتاج " ثم عاد في نهاية القصيدة للقافية التي بدأ بها هذا المقطع الشعري الذي بلوَّر مضمون الفكرة وما يرنو إليه الشاعر من مضمون .
ملامح تجربة المساعيدي
******************
1- شعر الحكمة:
*********
وقد فاضل الشاعر بين الخلق الذميمه والدنيا وصاحب الأصل الطيب في مربعات كثيرة وردت بديوان "جواني" استخدم فيها الشاعر الحكمه المستخلصة من الثراث الثقافي والأمثال الشعبية نذكر منها:

الواطي لو يوم شَبَعْتُه
يمشي وفارد قلوعَه
وانت اللي عارف وجيعتُه
شبعته من بعد جوعه

نلاحظ في الرباعية السابقة الشطر الرابع يتناص من المثل الشعبي الدارج " شبعه من بعد جوعه " والذي يصف بها الشاعر الشخص ذميم الأخلاق المكروه بين الناس والذي عبر عنه الشاعر بكلمة " الواطي" وهي كلمة تعبر عن الشخص "النذل" وهو من كان خَسيسًا مُحْتَقَرًا سَاقِطًا في دين أو حَسَب، الذي تربطه بالبشر علاقة المصلحة الشخصية لا غير.

كما يصف الشاعر حال الدنيا مع الغواية فيقول:
ويا دنيا كاسك وداير
وسقيتي منه الغواني
دليني ليه الحراير
دا اللي غواهم غواني

ودائما ما نقول باللهجة العامية الدارجة في وصف الدنيا على أنها ( كاس وداير على كل الناس ) وكذا يقرر الشاعر هذا المعني وغواية الدنيا للغانيات الساقطات، أما غواية الشاعر فكانت مع الحرائر الأحرار وهي غواية محمودة تحمل في طياتها حكمة بالغة وغواية الحكمة دائما تكون هي ضالة المؤمن الذي لا يفتأ يبحث عنها ويقتنصها أينما وجدها؛

ثم يعطي مثل حي لصفة الأحرار فيقول:

والحر لو يوم يشوفك
يفتح في قلبه سراديب
يمسح بطبته كفوفك
لو كنت عنه غريب .

وهكذا ينشد الشاعر حكمة تجربته الشعرية ليدعم بها أصحاب الأصول ويشد على أزرهم ، فيظهر كرم الحر لمن يعرفه ولمن لا يعرفه، حتى وإن لم يملك المؤنة فهو كريم الخصال والطبع يفيض وجده بالحب لكل الناس فيعاملهم ويقابلهم بالحسنى، وكذا يذم الشاعر الدنيا التي من طبعها الدنو والخسة، ويقمع كل أصحاب الدنو الأخلاقي ليسمو ويرتفع عكسها في النفوس، وهنا يتضح جليًّا تأثير الشعر في تعديل السلوك المعوج عن طريق مدح الأخلاق الكريمة وذم الأخلاق المشينه وهى أحد وظائف الشعر التي عرفت ضمن أغراض الشعر العربي مذ نشأته.

2- القضايا المعاصرة:
************
يقول الشاعر محمد المساعيدي في قصيدته "وايه يعني؟ ":
أنا المروي بكل قصايدك النيلي
وانا اللي ملامحي تشبهلك
فليه خايفه تبصيلي
أنا اللي زرعتك ف ليلي
أمانه عليكي تدعيلي
عشان القلب يتدفي
يا لابسه أحلى توب عفه
أنا مستني تحكيلي
فأيه يعني
يعدي النيل على جوفي
وما اشربشي
وأنزف حبر من دمي
وأقف عاجز وما اكتبشي
وليه حكمك يكون اعدام
مانا المسجون وانا السجان
فمتواربيش بيبان سجنك
أنا عمري ما أكون هربان
وأيه يعني؟
أموت م البرد في صيفك
واصدق كل تخاريفك
واحس كأن أنا ضيفك
وأمن ع الكلام كله
وتعجبني تصاريفك
وايه يعني؟
ما احسش حضنك الدافي
ومني بس أنا تخافي
وانا اللي كسرت مجدافي
عشان ما ابعدش عن شطك
واشوف كل الخطوط عتمه
وعيني ما تقرا غير خطك
وخطك لو يكون مبهم
أنا أفهم
منا العاشق وانا الملهم
فايه يعني؟ ......

يعاتب الشاعر الوطن وما آلت إليه أوضاعه عتاب الابن البار الصادر عن السليقة الجنوبية، والمعبر عن الطبيعة الشعبية، والضمير الجمعي ليعطي مثالا حيًّا للإنسان الجنوبي ولغته الخاصة فى الفن والتعبير - على اعتبار أن اللهجة - هى أيضا لغة ما - ومن خلال هذه اللهجة يتم التعبير عن آلامه وآماله ، وهمومه وقضاياه ، وعن جراحاته المخزونة ليرصد الشاعر مشهد لما يحمله النيل من أوجاع " يعدي النيل على جوفي ... وما اشربشي " فينشده بحرارة ويعبر عن معاناة المواطن الذى آثر الكد والتعب والمكوث في وطنه فيشعر مرارته " وليه حكمك يكون اعدام ... مانا المسجون وانا السجان .... فمتواربيش بيبان سجنك ... أنا عمري ما أكون هربان "؛

عندما يكتب الشاعر الحكمة الواقعية بدافع المسؤلية المجتمعية تراه حين يقدم النقد لبعض السلوكيات أو الأحداث يكون هادفا بناءا وهنا عتاب إنساني في شكل دفقات شعورية الأمر الذي يجعل القارئ يقف متأملا في المعنى من وراء قول الشاعر، وهذا ما صنعه المساعيدي حين عاتب الوطن على حكم الاعدام لأنه هو ا الابن البار الأصيل المواطن " المسجون والسجان " فلا ضير إن غلقت الأبواب أو " واربتها " على حد قول الشاعر لأنه في الحالتين لن يتركها ويهرب .

وهنا نقول إنَّ التأمل في الحياة والإبحار في سرها هو جوهر التجربة الشعرية في الشعر، حيث من خلال هذا الجوهر يستطيع الشاعر التعبير عن الضمير الجمعي للأمة فيرصد الحدث ويعبر عن الآلآم من خلال وجهة نظر شعبية لا من خلال وجهة نظر الشاعر فحسب، فهو المتحدث الرسمي بلسان أمته، فالشعر هو الفن الذي يتواصل مع حصاد التجربة الإنسانية للشاعر العربي حيث تحمل الجذور المشاعر نفسها والتأملات ذاتها فهي ميراث إنساني يستحق التأمل .

وهكذا يكون الشعر فى طبيعته وجوهره هو فى حقيقته شعور ، وهناك فرق بين الشعور الأصيل والشعور الدخيل ، أو بين الشعور الصادق والشعور الزائف، وقد عبر الشاعر بطبيعته الخاصة التي لا تعرف الزيف، عن همومه وقضاياه وما يصبو إليه بكل ما أوتى من موهبه فكان ديوانه في مجمله وليد تجربة ومعاناة، وليس وليد تقليد ومحاكاة .

3- اللغة والألفاظ:
*********
يستخدم الشاعر محمد المساعيدي في ديوان " جواني " بعض الألفاظ الغريبة الغير متداولة حتى في اللهجة العامية المصرية، التي تحتاج إلى هوامش لمعرفه كنهها ومعناها، وهي ألفاظ معجونة بملح الأرض التي نشأ فيها وربما لا يعرفها إلا أهل الجنوب فقط، ومثال ذلك ما أورده المساعيدي في نهاية قصيدة " قعود النخل " فيقول:

يامايا حجلك فين
عاوز أبيع فرده
يا محنيه الكفين
ملفوفه بالبردة
وريني وشك زين
رسيني ع البرده
أخاف ابيع حجلين
ونطلعي قرده
****

ونلحظ هنا كلمة "حجلك" ومعناها الخلخال الصعيدي المصنوع من النحاس أو على الأغلب كان يصنع في الجنوب من الألومنيوم بدون دليات حتى لا تحدث صوتًا أثناء السير على الأقدام فلا ينتبه أحد لصوتها وهذه الكلمة "الحجل" لا يعرف معناها إلا أهل الجنوب، كما نلاحظ أن المساعيدي في نفس المقطع السابق استخدم كلمة "البردة" وهي عبارة عن زي صوف كثيف ترتديه النساء أشبه بعباءة الرجل، لكنها تغطي جميع الجسد من الوجه حتى القدم، وتسمى المرأة التي ترتدي البردة " متزغنفه " وقد استخدم الشاعر هذه الكلمة أيضًا في بداية قصيدة "قعوف النخل" بجانب بعض الكلمات الأخرى فيقول :

يا قعوف النخل مالك
ليه متشعبطه بالليف
حاضناه قوي كده ليه
ياقعوف ومزغنفاه زغنيف
خايفه عليه م الزبط ياقعوف
ومكتفاه تكتيف
ماتسيبي ليف النخل
خلي الوقيد كرنيف "
*****

يصر الشاعر على استخدام الألفاظ المعجونة بملح الأرض الجنوبية ذات الخصوصية القصوى وبهذا تصبح معاني القصيدة مغلقة على أصحاب تلك اللَّكنة الذين توارثوها عبر الأجيال وأغلقت عليهم فلا يفهمها سواهم، فبداية من العنوان " قعوف النخل " أي جريد النخل كاملا من البداية للنهاية ، والذي يكسو النخل من الأعلى حيث تَعلقُ القعوف بالليف " متشعبطه بالليف " فيخفيها " ياقعوف ومزغنفاه زغنيف " أي تستره وتخفيه، " خايفه عليه م الزبط " أي تخشى عليه الغبار والأتربة فتغطيه تماما فلا يظهر منه شيء، ثم يختم هذا المقطع بقوله "خلي الوقيد كرنيف" والكرنيف هو عصا السباطة اليابسة التي تستخدم في وقيد الفرن البلدي؛

وهنا نقول أنَّ الشاعر آثر أنْ يكون له لغته الخاصة وألفاظه المغلقة تأثرا بلكنة الأصل والمنشأ التي تنتمي لطمي الأرض " الجواني " فهو يعتز ويفخر بلغته الصعيدية الأصيلة، الأمر الذي يحتم عليه أنَّ يضع هوامش للقارئ حتى يفهم مراد الشاعر وما يصبو إليه من مضمون .

ونخلص إلى ما يلي:
************

نوَّع الشاعر محمد المساعيدي في البنية الفنية لمعمارية القصائد تضمنها ديوان "جواني" فجاءت بعضها في شكل ما يعرف بفن "الدو بيت" وهو فن خاص بالمربعات سواء المربع الكامل أو الناقص ويتضمن "الدوبيت" أيضًا مربعات فن الواو، وكتب الموال السباعي بطريقة جديد مبتكرة غير المتعارف عليها؛

كما تحرر الشاعر في بعض القصائد من فن التربيع الشعري وكتب على نمط قصيدة الزجل العامي متحررة ومتعددة القوافي ، وأحيانا يجمع بين كل هذه الأنماط الفنية في قصيدة واحدة.

تجربة الشاعر محمد المساعيدي تتواصل مع حصاد التجربة الإنسانية للشاعر العربي حيث تحمل الجذور والمشاعر نفسها والتأملات ذاتها اهتم المساعيدي بإسداء النصح في مجال المعاملات الاجتماعية، وحفظ المقام واحترام الذات.

تجلت حكمة الشاعر المتأثرة بحكمة الموروث الشعبي والتي تأتى مرتبطة بأفكار وتقاليد وأعراف تربينا عليها جميعا، وهو كل ما تتخذه الأمة من قناعات تحث على التصبر أمام قسوة الظروف والمصائر، وقد جاء ديوان "جواني" للشاعر محمد المساعيدي في العموم عصارة تجربة لميراث إنساني يستحق التأمل .

عمد الشاعر محمد المساعيدي إلى استخدام بعض الألفاظ الصعيدية الأصيلة الممزوجة بطمي الأرض فجاءت في جمل ومقاطع مغلقة لا يفهمها إلا أهل الجنوب الذين نشأوا هناك فتوارثواها كابرا عن كابر عبر الأجيال المتعاقبة، وأغلقت عليهم فلا يفهمها سواهم، فكانت لغة ديوان "جواني" لغة جوانية المضمون، لغة الصعيد الجواني، ولذا لابد من وجود هوامش لبيان هذه الكلمات حتى يفهمها المتلقي "القارئ العادي".

******************
الهوامش والمراجع
***************
1- ابن خلدون: مقدمة ابن خلدون، المطبعة الشرقية، القاهرة، 1327هجرية، ص 707 : ص 710.

2- د. شوقى ضيف: " الأدب فى عصر الدول و الاٍمارات"، القاهرة، ص328.

3- عمرو باشا موسى: الأدب فى عصر الدول المتتابعة، دمشق 1957م، ص 376 .

4- د. مجدى محمد شمس الدين ـ فنون أندلسية فى الأدب العامى المملوكى ج2ـ الهيئة العامة لقصور الثقافة 2004م ص265.

5- مصطفى صادق الرافعى: تاريخ آداب العرب، القاهرة، مكتبة الاٍيمان، 1997م، ج2، ص 157.

6- د. بسام قطوس:سيمياء العنوان، وزارة الثقافة, عمان-الأردن, ط1, 2001م، ص7.

7- عبدالرحمن ابو علي: مع امبرتو ايكو، مجلة نزوى، العدد14، 1998م.

8- المرجع السابق، ن ص .

9- محمع اللغة العربية: المعجم الوسيط، مكتبة الشروق،مصر،ط4،2004م مادة (جَوَّانيُّ).

10- محمد الريشهري: العلم والحكمة في الكتاب والسنة، بمساعدة: رضا برنجكار، ت: مركز بحوث دار الحديث، ط3 هامش ص363.

11- د. مجدى محمد شمس الدين ـ فنون أندلسية فى الأدب العامى المملوكى ج2ـ الهيئة العامة لقصور الثقافة 2004م ص265.

12- محمد بن إسماعيل شهاب الدين الحجازي المصري: سفينة الملك ونفيسة الفلك، الدوحة، قطر، وزارة الثقافة والفنون والتراث، 2010م، ط الأولى.

استطلاع الرأي

أسعار الذهب

متوسط سعر الذهب اليوم بالصاغة بالجنيه المصري
الوحدة والعيار الأسعار بالجنيه المصري
عيار 24 بيع 3,566 شراء 3,589
عيار 22 بيع 3,269 شراء 3,290
عيار 21 بيع 3,120 شراء 3,140
عيار 18 بيع 2,674 شراء 2,691
الاونصة بيع 110,894 شراء 111,605
الجنيه الذهب بيع 24,960 شراء 25,120
الكيلو بيع 3,565,714 شراء 3,588,571
سعر الذهب بمحلات الصاغة تختلف بين منطقة وأخرى

مواقيت الصلاة

الجمعة 10:22 مـ
15 جمادى آخر 1447 هـ 05 ديسمبر 2025 م
مصر
الفجر 05:04
الشروق 06:36
الظهر 11:45
العصر 14:36
المغرب 16:55
العشاء 18:17