مكانة وأهمية المطران المصري فى أثيوبيا
بقلم : د.محمد بهنساوي
كان للمطارنة المصريين دورًا كبيرًا ومؤثرًا فى تاريخ العلاقات بين كلًا من مصر وأثيوبيا، فمنذ أن اعتنق الأحباش المسيحية صار رجال الدين هناك يعتبرون بطاركة الإسكندرية خلفاء للحواريين أصحاب المسيح، كما أصبح من مظاهر تبعية كنيسة الحبشة لكنيسة الإسكندرية أن يعين بطريرك الإسكندرية مطراناً مصرياً ليشرف على كنيسة الحبشة بناء على طلب من ملوك الحبشة الذين يرسلون رسلهم إلى حكام مصر بكتاب وهدية ثمينة من كنوز الحبشة. وبمرور الوقت ازدادت العلاقات توطداً بين كنيسة الإسكندرية وكنيسة الحبشة.
ومما يدل على أثر الكنيسة الواضح فى العلاقات بين مصر والحبشة خلال العصر المملوكى أن الحصول على المطران المصرى لرعاية كنيسة الحبشة كان مثاراً لكثير من المراسلات بين ملوك الحبشة وسلاطين المماليك، فأرسل الإمبراطور يكونو أملاك عندما تولى الحكم فى الحبشة (669-684هـ/1270-1285م)، إلى السلطان الظاهر بيبرس محاولاً الحصول على مطران مصرى لرعاية الكنيسة الحبشية، حيث كان منصب المطران شاغراً ولفترة طويلة منذ أواخر عهد الأسرة الأجوية.
فلما رفض سلطان مصر تحقيق مطلبه لجأ الأخير إلى كنيسة أنطاكيا وحصل منها على بعض رجال الدين السريان للقيام بأمر كنيسة الحبشة، وقد كانت هذه التجربة هى الأولى التى يرأس فيها كنيسة الحبشة مطارنة غير مصريين، إلا أن هذه التجربة فشلت تماماً، ولم يستطع رجال الدين السريان القيام بأمر الكنيسة الحبشية على نفس النهج الذى سارت عليه منذ نشأتها.
وأوردت مصادر تلك الفترة دور الكنيسة المصرية أكثر وضوحاً كمؤثر فى العلاقات بين البلدين من خلال الرسالة التى أرسلها ملك الحبشة يجبيا صيون (684-694هـ/1285-1294م) إلى بطريرك الإسكندرية بهدف الحصول على مطران مصرى لرعاية كنيسة بلاده حيث جاء فيها:" أتوسل للبطريرك أبو يحنس ونسلم عليه بالسلام الذى سلم به على مرقص... اسمع كلامى وأقض حاجتى وابعث لى مطراناً أسقفاً جيداً صالحاً يعلمنى كل شئ جيد ويكون مثل ما ضرب داود عليه السلام المثل في الزبور في شأننا وقال خلوا رجالاً جياداً من قبط مصر يحضرون إلى بلاد الحبشة يعلمونكم العبادة والزهد... وهؤلاء السريان الذين عندنا من غير مصر بغضناهم وما حببناهم ولأجل محبتنا فى بطريركية مصر ما خليناهم عندنا أساقفة وطردناهم وما كانوا تقدموا عندنا إلا بوالدنا لأنه ما كان عنده أحد من جهتك". وتبين هذه الرسالة مدى تقدير ملوك الحبشة لكنيسة الإسكندرية وخاصة بطريرك هذه الكنيسة.
ولكن الحصول على مطران مصرى لكنيسة الحبشة لم يكن أمراً سهلاً، فقد كان تعيين ذلك المطران يستوحب إرسال السفارات والهدايا من جانب ملوك الحبشة إلى سلاطين المماليك، وتزخر المصادر التاريخية بأخبار تلك السفارات القادمة من الحبشة فى طلب المطران، فمنذ أن انتشرت المسيحية فى الحبشة لم تعد تستغنى كنيستها عن وجود مطران مصرى على رأسها، ومع مرور الوقت ازدادت أهمية المطران المصرى وحرص ملوك الحبشة على ألا يخلو الكرسى الأسقفى فى الحبشة من أحد المطارنة المصريين.
وتظهر أهمية المطران المصرى فى الحبشة خلال تلك الفترة من الألفاظ التى استخدمها ملوك الحبشة فى مراسلاتهم إلى سلاطين المماليك للحصول على المطران، فيبالغ يكونو أملاك فى تصغير نفسه أمام السلطان الظاهر بيبرس فيقول: "...أقل المماليك محرا أملاك يقبل الأرض بين يدى السلطان" كما يقول: "وبلادنا بلاد مولانا السلطان ونحن عبيده"، كما أورد لنا ابن عبد الظاهر تلك الرسالة التى أرسلها ملك الحبشة يجيبا صيون إلى البطريرك يؤانس السابع(669-692هـ/1271-1293م)، وهى تعبر تعبيراً صادقاً عن مدى أهمية المطران المصرى فى حياة الأحباش، إذ يقول فيها: "أتوسل للبطرك ـ بطريرك الإسكندرية ـ يوحنس علية السلام الذى نسلم به على مرقص...اسمع كلامى واقضى حاجتى وأبعث لى مطراناً جيداً صالحاً، يعلمنى كل شىء جيد ويكون ما ضرب داود عليه السلام المثل فى الزبور عن شأننا وقال خلوا رجالاً جياداً من قبط مصر يحضرون إلى بلاد الحبشة يعلمونكم العبادة الزهد".
ويتضح اعتزاز الأحباش برابطتهم بالكنيسة المصرية فى تكريمهم للمطران المصرى، فما أن تأتى الأخبار بقرب وصوله حتى تصدر الأوامر بأن يستقبله حكام المقاطعات الحدودية بكل مظاهر التكريم الرسمية، وكلما تقدم موكبه نحو العاصمة انضم إليه حكام المقاطعات التى يمر بها ومعهم أعداد كبيرة من رجال الدين والجنود والأعيان، وعند مشارف العاصمة يحتشد الملك وأسرته ورجال دولته لاستقبال المطران الذى يقصد موكبه الكنيسة مباشرة حيث يقام القداس الأول ولا يكاد ينتهى حتى ينثر الملك على رأس الحاضرين الذهب الكثير ابتهاجاً بقدوم المطران، كما يحرص ملك الحبشة على زيارة المطران فى مواعيد متقاربة جداً، ويعتبر أوامره واجبة التنفيذ.
وقد كان للبطريرك المصرى من الاعتبار بقدر ما لشريعته من الحرمة فى عين الأحباش، ويظهر احترام الأحباش لبطريرك الإسكندرية فيما يرسله من مكاتبات، حيث تُستقبل تلك المكاتبات استقبالاً حافلاً لايقل عن استقبال المطران نفسه، فيخرج كل حاكم ولاية لاستقبال حاملى الرسالة ولا يجوز لهم العودة إلا بعد أن تسلم الرسالة لحدود ولاية أخرى إلى أن تصل الرسالة إلى حدود إقليم أمهرة حيث مركز المملكة، ويشير ابن فضل الله العمرى إلى أن النجاشى كان يخرج بنفسه لاستقبال رسالة البطريرك، كما يمتنع عن إصدار أية أوامر حتى يوم الأحد الذى يلى وصول رسالة البطريرك، ويضيف القلقشندى قائلاً إن البطريرك صار لديهم كالخليفة على دين النصرانية، وأنه حين يرد كتاب البطريرك يتلى فى الكنيسة يوم الأحد والملك واقف لايجلس إلا بعد قراءته وتنفيذ أوامر البطريرك الواردة فيه. وتشير بعض الدرسات إلى أن تلك الرسالة الواردة من رأس الكنيسة السكندرية لاتسلم إلى الملك ولايحملها الملك إطلاقاً لعظمتها، وإنما الذى يتسلمها هو مطران كنيسة الحبشة.
ومن هذا المنطلق كانت الكنيسة من أهم أدوات ومؤثرات العلاقة بين مصر والحبشة لاسيما خلال العصر المملوكى، فقد ظل الأثيوبيون أوفياء لتراثهم وتعاليم كنيستهم المستقاة من كنيسة الإسكندرية، كما ظل المطران المصرى يمثل الشخصية الأولى فى السلم الكنسى فى الحبشة طوال فترة العصور الوسطى.


















