القراءة المفتقدة سبيل استعادة الوعي المفتقد
بقلم : بهجت العبيدي ـ كاتب ومفكر مصري مقيم بالنمسا
إن أخطر ما يواجه أي شعب أو أية أمة هو غياب الوعي، والوعي يتشكل حسب ما يمتلكه الفرد من قدرات ومعلومات، وهو نتيجة تحصيل الإنسان لمعرفه ، التي يخضعها للبحث والتمحيص من خلال مداركه التي يجب أن تتكون وتتشكل تكوينًا صحيحًا وتشكيلا منضبطا وإلا جاءت النتائج مزيفة، لا تمت الحقيقة بشيء.
ولا يمكن لدولة أو أمة أن تخطو خطوات حقيقية في طريق التقدم إلا إذا تمتع شعب هذه الدولة وأبناء هذه الأمة بالثقافة والتحصيل المناسبين للعصر الذي يعيشون فيه.
وإننا ـ أعني المسلمين والعرب جميعًا ـ نطلق على أنفسنا "أمة اقرأ" وذلك لكون الكلمة الأولى التي نزلت على نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم هي فعل الأمر "اقرأ" ذلك الأمر الذي حققناه في أزمان سابقة، وخاصمناه في أزمان ولم نحقق منه شيئًا، فأصبحنا كما نرى الآن غير مساهمين في صنع الحضارة الإنسانية، مستهلكين لكل ما ينتجه العقل البشري في كل أمة من الأمم.
تظل القراءة هي الوسيلة الوحيدة للمعرفة الحقيقية والعميقة، ولا سبيل آخر لذلك، ولا يمكن لأية وسيلة أخرى أن تحل محل القراءة في التثقيف الحقيقي، ولا في صقل المواهب، ولا بالوصول إلى آفاق بعيدة في المعارف.
والقراءة الدقيقة في أي فرع من الفروع ليست بالأمر الهين اليسير، بل هي في حاجة إلى جهد كبير يزوَّر عنه الأغلبية من بني البشر، حيث إنها تحتاج إلى تركيز شديد، وإعمال فكر عميق، وحضور ذهن متقد، ذلك الذي لا يستطيعه العوام من البشر، فضلا القراء البسطاء.
يظن البعض ـ واهمًا ـ أنه يمكن الاستغناء عن القراءة، أو استبدالها بأداة أخرى للمعرفة، خاصة بعد ظهور المذياع في نهاية القرن قبل الماضي وانتشاره بقوة شديدة في القرن الماضي، الذي شهد أيضًا ظهور التلفاز الذي ظن البعض أنه قد يكون بديلا للمعرفة عن القراءة، وجاءت الثورة التكنولوجية الهائلة في مجال الاتصالات وتقنية المعلومات ليظهر أنواع أخرى تصلح لأن تكون مجرد أداة لمعرفة المعلومات، تلك التي يتخطاها بكثير فعل القراءة.
إن فعل القراءة هو عمل متكامل يحياه القراء حياة كاملة، تلك الحياة التي تُنْتَزع روحها انتزاعا من أية وسيلة أخرى يظن البعض أنها يمكن أن تكون عوضا عن القراءة، التي لا يمكن لأمة من الأمم تهملها أن تجد لها موطئ قدم في عالم اليوم الذي يعلي من قيمة العمل المبني على العلم الدقيق والمعرفة العميقة التي لا سبيل لها إلا من خلال فعل القراءة.
إن هناك العديد من الأسباب تجعل الشباب وغيرهم يعزفون عن القراءة الجادة، منها ما هو جهل بأهمية القراءة، ومنها ما هو نفسي بعدم القدرة على إلزام النفس على ممارسة القراءة، ومنها ما هو اجتماعي في عدم وجود بيئات ثقافية مناسبة، ومنها ما هو لوجستي في ندرة المكتبات العامة في العديد من الأماكن خاصة القرى والعزب الصغيرة، ومنها ما هو اقتصادي متمثلا في ارتفاع سعر الكتاب في ذات الوقت الذي تقل فيها كثيرا الدخول في العديد من أقطارنا العربية، ومن ثم يكون من الصعوبة بمكان إيجاد مكتبة منزلية يعود لها أبناء الأسرة حال استطاع الأبوان غرس قيمة القراءة في نفوسهم.
إن عدم الفهم والوعي بأهمية القراءة في حياة الفرد والجماعة، يعد سببًا هامًا في العزوف عن القراءة، فكثير من الشباب، بل ومن الكبار أيضًا، يتساءل كثيرًا عن جدوى القراءة، في ظل تلك المقاييس المعروضة في مجتمعاتنا عن مفهوم الشخص الناجح التي لا تضمن، ولو جزئيًا، الثقافة والمعرفة.
ويظل أهم الأسباب عندي في العزوف عن القراءة هو عدم فتح المجال للمثقفين الحقيقيين في مجتمعاتنا العربية، وعدم الاحتفاء بما يليق بهم، ليصبحوا غرباء عن مجتمعهم، عديمي التأثير في بيئاتهم، قليلي الأهمية بالمقارنة بغيرهم من أصحاب المال أو المواهب في المجالات الأخرى كالرياضة أو التمثيل، ذلك الذي يعطي إيحاء بل ويرسخ مفهومًا بعدم جدوى أن يصبح الشخص مثقفا، حيث إن المنفعة الذاتية تظل أحد عوامل الدفع نحو أي فعل ومنه فعل القراءة، ذلك الفعل الذي هو الوحيد القادر على إعادة الوعي الحقيقي للإنسان العربي والذي نعاني من غيابه وافتقاده معاناة هائلة، هذا الفقد الذي لا سبيل لإعادته إلا بإعادة القراءة كعنصر رئيس في تشكيل ثقافة المجتمع.


















