صناعة النسيج اليدوي سحر الفن عبر العصور
تقرير سامح طلعت
تمتد جذور الصناعات الحرفية في مصر إلى عصور قديمة، فقد اشتهر الصانع والحرفي المصري منذ عهد القدماء المصريين مرورًا بالعهد الروماني ثم الإسلامي، ومن أمثلة هذه الصناعات التي برع فيها الصانع المصري؛ صناعات النسيج والتطريز والحياكة والدباغة، وكانت المرأة المصرية ماهرة في هذه الحرفة، ثم بعد ذلك النجارة والخراطة وصناعة الفخار والزجاج والحصير والسلال، وقد احتفظت هذه الصناعات بطابعها التقليدي، وقد ساعد على ذلك أسلوب التنظيم الذي كان سائدا في العصر الفاطمي وهو أسلوب نظام "الطوائف الحرفية".
لقد انتشرت الصناعات الحرفية في جميع أنحاء مصر، لأن هذه الصناعات تعتمد على المواد المتوافرة في البيئة المحلية، كالنخيل ومنتجاته والأخشاب وصناعاتها المختلفة، أما في البيئة الزراعية والصحراوية، فنجد صناعة المنتجات الحيوانية كالوبر والصوف والشعر والجلود المتوافرة من الجمال والأغنام والأبقار والأحجار والطين، أما المعادن النفيسة فتخرج من المناطق الغنية بالثروة المعدنية مثل النحاس والذهب والحديد والفضة والقصدير وغيرها، وقد تميزت هذه الصناعات بالدقة والابتكار والكفاءة والمستوى الجمالي المرتفع.
وتعتبر صناعة النسيج من الصناعات البيئية التي تستخدم الصوف النقي والطبيعي الذي يعتمد في تصنيعه في أغلب بلدان العالم على الخامات المحلية المتوفرة في كل بلد، حيث تتم صناعته وفق رسومات وصور ونقوش يبدع فيها الحرفي، فيصنع من خياله نسيجا تجتمع فيه الألوان والصور. وتعد حرفة غزل ونسيج وصباغة الكتان والقطن والحرير بالنول اليدوي من أقدم الحرف المصرية، فكان عدد الأنوال بأخميم (مدينة مصرية على الشاطئ الشرقي للنيل) حوالى 5000 نول، حيث أن الأسرة كاملة كانت تعمل في هذا المجال بمعدل نول لكل بيت تقريبًا، وتشكل المرأة حوالي 80% من العمالة المعاونة من داخل الأسرة، ويقسم العمل بين الزوج والزوجة والحماة والبنات، بينما يعمل الرجل أو أحد أبنائه على النول لما يتطلبه من جهد عضلي.
أن علماء الآثار اهتموا بدراسات المنسوجات لأنها تبين بطريقة نسجها مدى الترقي في تلك الصناعة، وتعكس بزخارفها وألوانها مقدار ما بلغته الأمة من الذوق الفني، لذا تسرد هذه الدراسة حكاية المنسوجات المصرية ابتداءً من العصر الفرعوني مرورًا بالعصر اليوناني الروماني، والقبطي، والإسلامي؛ الأموي ثم العباسي والطولوني والفاطمي والأيوبي والمملوكي والعثماني، ثم عصر الدولة الحديثة متمثلة في عصر محمد علي
المنسوجات في مصر القديمة
لازمت المنسوجات المصري القديم في حياته من المهد إلى اللحد، فاحتاج إليها في ملابسه لتقيه حر الصيف وبرودة الشتاء، وفي المنزل فصنع منها فتيل لمبات الإضاءة ومفروشات وأغطية له ولحيوانات حقله، وفى تجارته لمقايضتها بالمنتجات الأخرى، وفى تنقلاته من شراع المراكب وحبالها، وفي معابده لتقديمها كقرابين للآلهة والإلهات، وفي شعائره الجنائزية من تحنيط لجسده ولفه باللفائف الكتانية لينعم بالحياة في العالم الآخر، وقرابين توضع في مقابره من ملابس ومفروشات وأطعمة محنطة كانت تغلف بالنسيج.
وقد برع المصريون القدماء في صناعة المنسوجات وبخاصةً صناعة المنسوجات الكتانية، فأجادوا في غزل ونسج ألياف الكتان رغم صعوبة هذه الخامة، وقد حرص المصريون القدماء على تمثيل مناظر غزل ونسج الكتان على جدران مقابرهم، وعلى الرغم من الكشف عن ملابس ومنسوجات في المقابر والمواقع السكنية المصرية القديمة، وكذلك بعض النصوص المتعلقة بصناعة المنسوجات التي نُقشت على جدران المعابد أو كتبت على صفحات البردي، وشقف الفخار وكسر الأحجار، وما كتبه المؤرخون القدماء عن مصر القديمة، إلا أنه لم يتم الكشف حتى الآن إلا عن القليل من أسرار صناعة النسيج في مصر القديمة.
كانت المنسوجات المصرية القديمة تصنع أساسًا من الكتان، وهو الذي يأتي من ألياف نبات الكتان، كما كانت تصنع من ألياف النخيل والحشائش والبذور، وبدرجة أقل؛ من صوف الغنم وشعر الماعز، وكانت ألياف الكتان تغزل بعد فصلها من النبات، ثم تنسج خيوط الغزل على نول لتتحول إلى قماش، وكانت صناعة النسج مقتصرة على النساء العاملات على أنوال في ورش توجد عادةً داخل المنازل أو القصور أو الضياع الكبيرة. حيث حظيت المنسوجات الكتانية في العصر الفرعوني بشهرة واسعة، وكانت المنسوجات والملابس ضمن الهدايا المتبادلة بين فراعنة مصر وملوك العالم القديم، نظراً لرقتها ونعومتها،
وقد برع المصريون القدماء في غزل ونسج وصباغة ألياف الكتان منذ عصورهم المبكرة، ونظرًا لأهمية المنسوجات الكتانية وارتفاع أثمانها كانت تورث.
وتشهد المناظر التي تزين جدران المقابر بأن مصر القديمة كانت تشتهر جدًا بإنتاج الكتان، الذي صُنعت منه معظم المنسوجات المصرية القديمة، فكان الكتان يُصنع من ألياف نبات الكتان الذي يستغرق نحو ثلاثة أشهر لكي ينضج، والنبات نحيل الساق بأزهار سنوية زرقاء رقيقة. وعندما تموت الأزهار، تظهر رؤوس البذور وتكون النباتات جاهزة للحصاد، وكانت حزم سيقان الكتان تمسك معًا وتنزع من الأرض، بدلًا من أن تقطع. وبعد جفاف النباتات، تنزع رؤوس البذور يدويا بالهز أو تمشط بلوحة طويلة مسننة تسمى بالمشط الهزاز، ويساعد البلل بالتعرض للماء أو الندى، مع ضوء الشمس، على تفكك الألياف في الساق؛ من خلال عملية تعرف بالتعطين. وتصبح الألياف جاهزة للغزل؛ بعد الغسيل والتجفيف والضرب والتمشيط.
وكانت ألياف الكتان بطبيعتها ذات ألوان باهتة ذهبية أو بنية أو خضراء؛ إذا قطع محصول النبات في وقت مبكر. وقد استخدم قدماء المصريين المغرة (أكسيد الحديد المائي المخلوط بالطين) أو الأصباغ النباتية لتلوين المنسوجات؛ على الرغم من أن سليلوز النبات كان يجعل الصبغ صعبًا، وتعطي المغرة للنسج اللون الأصفر أو البني المصفر أو الأحمر. وكانت المواد النباتية المستخدمة في الصبغ تشمل الوسمة (نبات عشبي) للون الأزرق، والفوة والقرطم للون الأحمر. واستخدم التبييض أيضًا، لصناعة المنسوجات البيضاء التي كانت تعتبر رمزًا للمكانة الاجتماعية الرفيعة، وللنظافة. وتبين بعض مناظر السوق في مقابر الدولة القديمة مشاهد بيع الكتان، وفيها يجلس صاحب القماش، الذي عادةً ما يكون رجلاً مسنًا أصلع الرأس، على مقعد؛ حاملاً مروحة على كتفه الأيسر ويمسك بالطرف العلوي للفة من الكتان. ويعرض مساعد البائع على الشاري قماش الكتان الذي يتدلى على الأرض وينتهي بلفة، ويفحص الشاري نوعية القماش أو يقيس الطول المطلوب.
ولم يكن الكتان وحده هو الليف النسجي المستخدم؛ فقد عثر أيضًا على منسوجات مصنوعة من صوف الأغنام وشعر الماعز وألياف النخيل والحشائش وقصب (بوص) السلال (الغاب). وقد أخرجت الحفائر عدة أمثلة لمنسوجات من شعر الماعز من موقع قرية العمال بتل العمارنة، والتي يرجع تاريخها إلى منتصف القرن الرابع عشر قبل الميلاد. ولم تكن للألياف الحيوانية نفس الأهمية في صناعة الأقمشة؛ حيث لم يكن الصوف في تلك العصور مناسبًا للغزل، كما أن قدماء المصريين كانوا يعتقدون بأن الصوف غير نظيف: فاستخدموه فقط في صناعة الثياب الخارجية التي كانت تترك خارج المعابد. ولا تـُظهر الحفائر الكثير من منسوجات ألياف النخيل، الذي كان يُصنع من لحاء أنواع مختلفة من النخيل، وكان يستخدم في صناعة الحبال منذ العهود القديمة. وقد استخدمت الحشائش، وعيدان قصب (بوص) السلال (الغاب) نمطيًا في صناعة الحصير؛ ولكن من الجائز أن تكون قد استخدمت في المنسوجات، وإن لم يكن ذلك مؤكدًا.
ويمكن تقسيم مواد الصباغة في مصر القديمة إلى نوعين أساسيين: أصباغ المغرة، والأصباغ النباتية. والمغرة هي طينة صلصالية مخلوطة من الأرض تتكون من أكسيد الحديد أو الصدأ، ويتحول أكسيد الحديد الأصفر، بفعل الحرارة (الحرق)، إلى أكسيد الحديد الأحمر؛ كما يمكن أن يستخدم لتكوين ألوان الأصفر والأصفر- البني والأحمر. ولصبغ الكتان بأكسيد الحديد تاريخ طويل في مصر، ربما يرجع إلي بداية عصر الأسرات؛ من قماش طرخان.
وقد استخدمت عدة طرق لصباغة الثياب في عصر الأسرات؛ أقدمها طريقة "التلطيخ"، وفيها يوزع اللون في الثياب، ربما بمساعدة الطين أو الصلصال أو العسل،
كما استخدم قدماء المصريين أيضًا عملية تسمى بالصباغة المزدوجة؛ وفيها تصبغ الألياف والخيوط أو الثياب أولاً بلون معين، ثم تصبغ ثانية بلون آخر: للحصول على لون ثالث، فاللون الأرجواني، مثلاً، يتكون من اللونين الأحمر والأزرق؛ بينما يتكون اللون الأخضر باستخدام اللونين الأصفر والأزرق. وقد قام المصريون بصباغة خيوط الغزل أو الأقمشة المنسوجة، ومن الممكن أن تُلاحظ أحيانًا مساحات بيضاء، في القماش المنسوج، أسفل الأماكن التي مر فيها الخيط الرأسي فوق خيط أفقي، وكان التبييض أيضًا وسيلة فنية للزخرفة؛ لأن ارتداء ثوب أبيض كان لدى المصريين القدماء من دلالات الوضع الاجتماعي، وربما أيضًا كدليل على النظافة.
ويمكن الوقوف على العمليات والطرق المستخدمة في صناعة المنسوجات بمصر الفرعونية؛ من واقع عينات من قطع القماش التي عُثر عليها، وكذلك من خلال تصوير المراحل المختلفة لإنتاج المنسوجات (من بذر الكتان إلى نسج الألياف) على نقوش المقابر، فبمجرد إزالة الألياف من النبات أو الحيوان، فإنها كانت تُغزل ثم تُنسج في قماش، وللحصول على خيط طويل متماسك، فإن ألياف الكتان كانت تُغزل وتُجدل معًا؛ وهو ما أنتج خيطًا متماسكًا ومرنًا إلى حد ما.
الواقع إن الأسلوب الفني للغزل في مصر القديمة كان ينطوي على عمليتين متميزتين، لكن مترابطتين: ففي المرحلة الأولية، كانت الألياف تلوى مبدئيًا ليًا خفيفًا؛ ثم تكون عملية الغزل الفعلي للألياف في المرحلة الثانية للحصول على الخيوط، وتشتمل عملية الغزل الفعلي نفسها على ثلاث مراحل، هي: (سحب الألياف، ثم ليها، ثم لف الخيط)، وعند بدء حركة المغزل، فإن الغازل يسحب أو يشد عددًا قليلاً من الألياف على دفعات من كتلة ألياف، ومع دوران المغزل تلوى الألياف، وعندما يصبح هناك عدد كاف من الخيط الملوي، يوقف المغزل ويلف الخيط حول جذع المغزل. والمغزل اليدوي كان أكثر أشكال أدوات الغزل انتشارًا وشيوعًا في مصر القديمة؛ وقد كان يصنع من عصا تسمى الجذع أو المغزل، وثقل يسمى الفلكة. وتعمل الفلكة مثل الحذافة (العجلة الهابطة)، في المحافظة على انتظام زخم المغزل؛ بالنسبة للسرعة والحركة المنتظمة.
وبعد غزل ألياف الكتان، لتصير خيطًا أو غزلاً، فإنها تصبح جاهزة لتنسج قماشًا، والنسج هو عملية شبك مجموعتين من الخيوط، أو أكثر، وفق نظام محدد مسبق؛ من أجل الحصول على جزء من نسيج أو نسيج كامل. وتكون المهمة الأولى هي تحرير الخيوط من المغزل ومدها على النول؛ وهو ما ينطوي على وضع الخيوط الرأسية (السداة) في موضعها على النول وشدها بإحكام: وعندها يبدأ النسج الفعلي. ويبدو أن نطاق أنماط النسج في مصر القديمة كان محصورًا في تلك الأنواع التي تسمى "العتابي"، والسلال، والسجاد، والسداة. والنمط النسجي الأكثر شيوعًا وانتشارًا في مصر القديمة كان العتابي البسيط؛ بأعداد متساوية من الخيوط الرأسية والأفقية، وهناك نسج عتابي سداتي الوجه (أي بخيوط رأسية)؛ وبه عدد أكبر من الخيوط في اتجاه ما أكثر من اتجاه آخر، أي أن عدد الخيوط الرأسية به يفوق عدد الخيوط الأفقية: في السنتيمتر المربع الواحد.
أن المصري القديم قسم عمال النسيج إلى طوائف شأنهم في ذلك شأن عمال أية حرفة أخرى، وقد نالت النسَّاجات تكريمًا على ما كن يقمن به من أعمال النسج لصالح صاحب المقبرة في ورش النسيج التابعة له، وكان هذا التكريم إما بالذهب، أو الفاكهة، أو الملابس، أو الحلي المختلفة، وذلك بحسب الدرجة الوظيفية بطبيعة الحال، وهذا يدل على حسن المكانة الاجتماعية لعاملات النسيج، إذ كن يتساوى في التكريم مع الموظفين الآخرين، وبذلك لا يمكن القول بأنهن كن من الطبقات الكادحة الفقيرة. فقد كان للمناسج مركز مرموق، وكانت عاملات النسيج تتمتعن بمكانة اجتماعية جديرة بالاحترام، ونلاحظ مما تقلده مديرو المناسج من أوسمة وألقاب أهمية هذه الطبقة، وفي الدولة الحديثة نعلم من نصوص "تحتمس الثالث" أن طبقة النساجين كانت من الطبقة المختارة للعمل بالمعابد الكبرى كالكرنك والأقصر.
الحقيقة أن صناعة النسيج في مصر القديمة كانت تمارس في كل من المنازل، والمصانع، والقصور، والمعابد، وفي البداية كان يمارسها بعض أو كل أفراد الأسرة بما يحقق الاكتفاء الذاتي لهم من الملابس. أما ما كان يزيد عن حاجاتهم فقد كان يتم تبادله بمنتجات أخرى من مستلزمات الحياة اليومية، لقد كانت المعابد تحتاج إلى كميات كبيرة من الأقمشة كأجور للكهنة، وكأقمشة تستخدم في طقوس الخدمة اليومية، كأردية المعبودات، والأعلام التي تعلو ساريات المعبد، مما دعا إلى وجود ورش خاصة بالمعابد لصناعة الأنسجة.
كما يتضح من النصوص والنقوش معًا أن النساء كن يشكلن الغالبية بين المشتغلين في إنتاج المنسوجات؛ وإن لم يكنَّ في موقع المسئولية، حيث اقتصرت معظم الألقاب المتعلقة بإنتاج الأقمشة على الرجال. وقد ظهرت أيضًا فروق تبين أي جنس استخدم أي نوع من الأنوال؛ حيث صورت النساء دائمًا وهن يستخدمن النول الأفقي، بينما كان معظم الذين صوروا مستخدمين النول الرأسي: من الرجال. ولعل النول الرأسي الجديد قد ارتبط بنوع من الاعتبار والحيثية، أو أنه كان أثقل وزنًا وتطلب قوة أكبر في تشغيله. وتظهر دراسات العمارة المنزلية تفاصيل إنتاج المنسوجات داخل الوحدات السكنية؛ كبيرة وصغيرة، حيث أن الضياع والقصور الكبيرة كانت تضم ورشًا عديدة، من بينها استوديوهات غزل ونسج لإمداد الأسرة بما يلزمها من المنسوجات


















