رائحة الظربان
بقلم : د.صلاح شفيع
أيمكن أن تقول : ما أروع السخافة ؟! قد تظن أن هذا القول سخافة ، لكن ولم لا ؟؟ لم لا تكون السخافة شيئًا رائعًا.. ؟
نيك فوجيسيك .. ولد بلا ذراعين أو رجلين ، عدا قدم صغيرة مكان الرجل اليسرى في حجم كف اليد بها اصبعين فقط، . يمشي نيك عن طريق القفز مما سبب سخرية زملائه منه في المدرسة حينما كان صغيرًا.
إعاقته سببت له حالة نفسية سيئة إلى درجة أنه فكَّر في الانتحار، وظل يسأل نفسه عن سبب كونه مختلفاً عن بقية الأطفال والغرض من إعاقته والهدف من حياته. كبر نيك وتعلَّم أن يقوم بكثير من الأشياء بمفرده بالتدريج ، وتكيف مع حالته ، وأصبح أكثر قدرة على تقبل حالته. وتعلم أن يقوم بأنشطة يومية تستلزم وجود أطراف لإتمامها كغسيل الاسنان وتسريح الشعر والكتابة على الكومبيوتر والسباحة وممارسة الرياضة وغيرها.
عاش حياته وتحدى إعاقته ، وتحدى العالم ليثبت لنا جميعاً أنه لا يوجد ما يسمى بالفشل والسقوط . يسعى لزرع بسمة جديدة في وجوه الضعفاء ، ويدعوهم إلى أن يكونوا أكثر صلابة في تحدى أعتى المشاكل التي سيواجهونها في حياتهم.
وما أدراك ؟ فلعل نقصك هو سر تميزك ، أحد اللاعبين المصريين كانت قدماه غير متساويتين ، هذا العيب الخلقي جعله أشهر من يحصل على ضربات جزاء دون أن يلمسه أحد ، لدرجة أن أحد الحكام في بداية المباراة قال له لن أحتسب لك ضربة جزاء اليوم مهما فعلت ، كأنه يقول له : قديمة ، تحبكها عليَّ كل مرة ، هذه المرة انس يا عزيزي . ومع ذلك احتسب له أيضاً في هذه المباراة . لقد كان اللاعب ذو الساقين المعوجتين يضرب قدميه في بعضهما ، فيبدو كأن اللاعب الآخر قد عرقله بالفعل ، لا أقول هذا إعجاباً بما يفعله اللاعب ، فأنا ضد كل الوسائل غير الصحيحة ، ولا أحب التحايل . فالهزيمة أروع من فوز غير مستحق ، فما الفوز إلا لحظة ، لا تلبث أن تنتهي وينتهي معها كل الزبد . لكني أذكرها هنا لأقول إنها لم تمنعه من اللعب ، بل حوَّلها صاحبها من عيب يعاني كثيرون من سخريات الآخرين منه إلى شيء يتباهي به .
حقاً .. كم من سخافة كانت بداية لعظمة حقيقية . إن أسوأ ما يمكن أن يواجه الإنسان هو أن يعيش المصيبة ويلمسها بيده ، لكن ربما لو لم يعش تلك المصيبة ما عرف المجد الذي يميّزه عن سائر البشرية . فكم من كنز للمعرفة يقع في جزيرة لابد أن تمر من بوابة السخافة ، ومَن من المغامرين الطامحين إلى الوصول إلى الكنز يمكن أن يتردد في اقتحام الصعب والسخافة من أجل الوصول إلى كنزه.
هل هناك سخافة أسوأ من السجن ؟ حتى لو كان هناك أسخف منه فهو يقيناً سخافة .. فهل تدري أنه لولا السجن ما تحققت العظمة لبعض الأشخاص ، وما عرف التاريخ بعض الاختراعات ، أو على الأقل تأخر ظهورها .
إن الحسن ابن الهيثم عبقري الفيزياء يلقى به في السجن ، لكنه ليس أى سجين ، إنه سجين انتقل من مكانة عظيمة عند الحاكم بأمر الله الفاطمي إلى الغضب عليه ، لهذا كلّف السجان بأن يراقبه حتى لا يهرب ، فكان لابد للسجان أن ينظر إليه طول الوقت ، وتفتق ذهن السجان أن يفتح فتحة في باب السجن لينظر منها على السجين الحسن بن الهيثم . كانت الفتحة دائرية ، والحجرة كلها مظلمة ، والضوء بالخارج ، ودخل الضوء من الثقب الدائري إلى الحائط المقابل وابن الهيثم يجلس في أحد أركان الحجرة ، وساق القدر لابن الهيثم في ركنه المظلم اكتشافاً كان السبب بعد ذلك في اختراع الكاميرا ، هذا الاكتشاف هو : أن الحجرة المظلمة ذات الفتحة الدائرية تعكس داخلها الصورة التى أمامها .
وفي الأساطير اليونانية يسجن مينوس مخترعه دايدالوس ، وهنا يجد المخترع أن الأسوار تحوطه من كل مكان ، ولا أمل في الخروج من أى جهة سوى الجهة الفوقية ، وهنا يتفتق ذهنه في أن يصنع لنفسه أجنحة ويطير من سجنه ، وينجح في الطيران بعيداً عن السجن ، وبغض النظر أن القصة أسطورية ، لكنها ظلت تداعب خيال العلماء الواقعيين حتى وصلوا فعلاً إلى تطبيقها واختراع الطيران ، ومازال هذا الاختراع يدين لتلك الأسطورة بالفضل .
إن ديستويفسكي أعظم روائي الدنيا مدين إلى السخافة للوصول إلى ما وصل إليه ، ولولا السخافة ما سمعنا عنه ، لقد وقف أمام منصة الإعدام وهو لايدرى ماذا فعل ، لكنها فوضى الثورة التى تطيح بالكثيرين حتى لو لو يفعلوا شيئًا ، لأن الثورة دومًا متوجسة خيفة ، تريد أن تأمن أعداءها فتتخلص بالظن من أعداءها ومن غيرهم ، وكان ديستويفسكي من غيرهم ، لكن قبل تنفيذ حكم الإعدام يأتى مرسوم بتحويل الإعدام إلى السجن ، ليمكث في السجن أربع سنوات ، هناك تتغير حياته ، لقد رأى أن الحياة قصيرة عندما رأى الموت قريباً ، فأراد أن يفعل كل ما يمكنه فعله في أقصر وقت ، فبدأ أثناء السجن يؤلف رواياته ، إلى درجة أنه يؤلفها شفويًا ، يمشى فيبدو كالمجنون وهو يحدّث نفسه ، وينظر إلى الناس بصورة مغايرة ، لم يكن ينظر إليهم كما ينظرون إليه ، كان ينظر إليهم مختزناً صورهم وطباعهم ليستخدمها في رواياته ، فلما خرج من السجن كان جائعاً يريد أن يكتب ويكتب ولا يتوقف عن الكتابة ليكون أغزر الأدباء كتابة. ويصبح السجن ولحظة الإعدام أعظم النعم في حياته . ولولاها ما اكتشف نفسه ،وأخرج منها هذه الروائع .
وعندما سجنوا شيخ الإسلام ابن تيمية في قلعة دمشق ضرب المثل لأعدائه في تقليص السخافات وجعلها في صورتها الحقيقية ، إن السخافة ضباب يظل عائقاً مادمت تراه كذلك ، فإذا لم تحفل به لم تجده ، يقول : ما يصنع أعدائي بي ؟! إن جنتي وبستاني في صدري أينما رحت فهي معي لا تفارقني وإن حبسي خلوة ، وقتلي شهادة ، وإخراجي من بلدي سياحة .
كان كلايد بيزلي الذي يقضى عقوبة في السجن يتفرج في تليفزيون السجن على تصفيات مباراة جولف ، وقد توقفت المباراة بسبب المطر الشديد ، فتفتق ذهنه عن فكرة جولف الطاولة ، أي أن تتم اللعبة على طاولة في حجم طاولة البلياردو ، عندما خرج من السجن بعد ثلاث سنوات، نفّذ فكرته لتنجح نجاحًا باهرًا ويصبح مليونيراً بسبب فكرة واتته في السجن.
إن السخافات كانت سببًا في الفشل ، لكنْ ثمة قليلون حولوا السخافات إلى قمة النجاح ، فإن كانت الاستهلالة هي عنوان الكتاب ، فإن وقوع قائد على الأرض وهو ينزل من سفينته إلى الشاطئ لنذير شؤم يدفع الفتور إلى نفوس الجنود ، لكن ما حدث ليوليوس قيصر كان على العكس تمامًا ، لقد نزل من السفينة غازيًا أفريقيا، والجيش مصطف لنزول القائد قبل أن يبدأ الغزو ، فإذا به يتعثر ويقع على الأرض ، لم يلعن ، ويرجع إلى السفينة ، بل لم ينهض ، وإنما فتح ذراعيه وظل على الأرض يقبل الأرض ، لينهض قائلاً ، إن هذه الأرض ترحب بنا ، وسعيدة لمقدمنا ، وعلت الهتافات ، وازداد حماس الجند . لأن هناك مَن حوّل السخافة إلى شيء عظيم. لقد حول سقوطه على الأرض من شيء يتشاءم منه الجنود إلى بشرى حملها لهم من تلك الأرض ، وكأنه فعل ذلك عمداً ، واحتضن الأرض ليتمكن من أن يسمع رسالتها !
وهذا بشار بن برد يرى العمى نعمة لأنها تحميه أن يرى ما لا يحب ، فقد قال له بعضهم : ما أذهب الله كريمتي مؤمن إلا عوضه الله خيراً منهما. فبم عوضك؟ قال: بعدم رؤية الثقلاء مثلك.
وليس ثمة أسخف من الأفاعى يجدها مزارع في أرض دفع فيها كل ما يملك من أجل أن يزرعها ، هذا ما حدث للمزارع الهولندي (فان كلويفرت) الذي باع كل ما يملك في بلده ، وهاجر إلى جنوب أفريقيا للبحث عن حياة أفضل . أو بالأحرى على أمل شراء أرض أفريقية خصبة يحولها الى مزرعة ضخمة وبسبب جهله ـ وصغر سنه ـ دفع كل ماله في أرض جدباء غير صالحة للزراعة .. ليس هذا فحسب ، لكنه لم يلبث أن اكتشف أنها مليئة بالعقارب والأفاعي والكوبرا القاذفة للسم . وبينما هو جالس يندب حظه خطرت بباله فكرة رائعة وغير متوقعة .. لماذا لا ينسى مسألة الزراعة برمتها ويستفيد من كثرة الأفاعي حوله لإنتاج مضادات السموم الطبيعية .. ولأن الأفاعي موجودة في كل مكان ـ ولأن ما من أحد غيره متخصص بهذا المجال ـ حقق نجاحًا سريعًا وخارقًا بحيث تحولت مزرعته (اليوم) الى أكبر منتج للقاحات السموم في العالم !
هل سمعت عن رائحة الظربان ؟؟ لن تجد رائحة كريهة أكثر منه ،هذه الرائحة الكريهة تخرج من غدة في مؤخرة هذا الحيوان الشرس ، وهو يعرف قيمة السلاح الذي يملكه ، لذلك لا يتورع عن مهاجمة الحيوانات الأكبر حجمًا منه ، ومن يقدر على مقاومة رائحته النتنة؟
لا يكاد يأخذ وضع الاستعداد لإطلاق السائل الذي يستطيع أن يوصله لماسفة تصل إلى ثلاثة أمتار بدقة ، حتى يولي العدو الأدبار من وجهه ، فهي رائحة تجمع بين رائحة البيض العفن ، والمطاط المحترق ، والثوم ، في الحقيقة كأنك تشم رائحة حيوان ميت ، والأمر لا يقتصر على هذا ، فتلك الرائحة لا تزول ، فلو استطاع أحدهم أن يصطاده ، وقام الظربان بالتبول على ثيابه ، أو حتي اكتفى بأن يفسو في ثوبه ، فلن تذهب الرائحة من الثوب أبدًا .
ولذلك ضرب به المثل فقيل : أَفْسى من الظَّرِبانِ ، ومن ومن الأمثال أيضاً " فَسَا بَيْنَهُمُ الظَّرِبانُ" وذلك لأنه يتوسط المئة من الإبل فيفسو ، فتتفرق تلك الإبل المجتمعة ، فالعرب تعرفه باسم مُفَرِّقَ النَّعم . ومن الأمثال الشهيرة أيضًا عنه : قولهم :: أنْتَنُ مِنَ الظَّرِبَانِ. وحتى تدرك قدرة هذا السلاح الفتاك الذي يمتلكه ، يجب أن تعرف ماذا يفعل مع الضب ، إذ يذهب إلى حجر الضب ، وفيه صغاره ، فيسد الجحر بجسمه ، ثم يفسو ثلاث فسوات ، فيدار بالضب ، ويخر مغشياً عليه ، فيأكله ، ثم يقيم في جحره حتى يأتي على آخر صغاره .
لكن تلك الرائحة ليست مقززة فحسب ، لكنها لا تزول ، لا تترك الملابس مهما غسلتها ، لكن لهذا السائل وجهان : رائحة كريهة لا تحتمل ، وفي الوقت نفسه لا تزول . فماذا لو استبعدنا ضرره ، إذن لتم توظيف صفة البقاء التي نحتاجها في أشياء أخرى جميلة نحبها ، وهكذا أخذوا هذه المادة ، وأعيد بناؤها ثانية مع جعلها عديمة الرائحة ، وتحولت من مادة مثبتة للرائحة النتنة إلى مادة مثبتة للعطور الفاخرة . فأصبحت العطور تدوم لوقت طويل ، لاتكاد تغادر الثياب.
ألا يوحي لك إن كل شيء مؤذٍ شديد الإيذاء قد يكون له وجهان ، فإن تحكمت في أحد وجهيه حولته من أشد الأشياء قبحاً إلى الضد تماماً تماماً كما تحولت رائحة الظربان من رائحة منتنة كأنها رائحة حيوان ميت إلى رائحة جميلة تدوم .
من ذلك قنديل البحر الذي يعاني الكثيرون من لسعاته ، لاحظ العلماء أنه عند تعرضه للضغوط والمؤثرات الخارجية يتوهج ويصدر ضوءاً أزرق ، عزل علماء من أكسفور الجين المسئول عن التوهج ، ونقلوه لنباتات ، وعرضوها لمؤثرات خارجية كالخدش ، فأظهرت نفس الوهج الأزرق ، فبدأ استغلال هذا الجين في إنتاج أسماك تضيء في الظلام ، وكذلك زهور ، وربما في إنتاج زهور طبيعية أكثر رومانسية بمجرد لمس العشاق لها .
وهذا رجل يمر في الغابة ، فيجد شوك إحدى الشجرات يلتصق بملابسه ، كانت تلك هي البداية لصنع قماش يلتصق ببعضه ، ويكون مجرد التلامس إغلاق السترة بدلاً من أزرار ، وغيرها . لأنه وضع هذا الشوك على القماش من الناحيتين ، فليتصق القماش ببعضه .
ما رأيكم إذن .. لو قلت لكم إن استثمار السخافة أحد أركان النجاح .. وليس أي نجاح ؟؟


















