بيضة النسر بقلم د صلاح شفيع
وللأشياء مذاق آخر (3) بيضة النسر بقلم د صلاح شفيع
لا تقل : الوقت لا يكفي ! بل دع الوقت نفسه يقول ذلك .. انظروا أن الوقت يبتسم ، كأن الماكر كان يريد ألا يكشف . لكنه في النهاية لا يعرف الكذب .. الوقت يعرف ذاته ، أنه في ذاته ليس حاسماً ، المهم أنتَ .. فقد لا يكفي لهذا ويكفي لذاك . فعليك أن تكتشف ذاتك ، فلعلك لا تدري بكنوزك ، وليس أفضل من الوقت الضيق ليكشف قدرات الإنسان .. فلا تقل الوقت لا يكفي لمذاكرة هذا العدد من الصفحات ، بل ابدأ ، واترك نهاية الوقت تحكم هل كان يكفي أم لا ؟ ولن تخسر شيئاً بالتجربة ، وكثيراً ما تتفاجئ أنت قبل غيرك بتحقق الهدف . وليس هذا فحسب ، بل تكتشف قدرات كانت فيك وأنت لا تدري .. لا تصادر المستقبل ، بل امش إليه ، فالفرق بين من يستطيع ومن لا يستطيع ، ليس في القدرة ، بل في المنهج ، فالذي يمتلك القدرة على الإنجاز في الوقت القليل يتساوى مع العاجز مادام يظن أن الوقت لا يكفي . لذلك فلا مستقبل لمن يستبعده . فلا تقل لا يمكنني ، فلعلك تقدر وأنت لا تدري . نعم فلعلك نسر وأنت لا تدرى .. وإليك هذه الحكاية .. لما سقطت بيضة النسر في عشة دجاج ، تربى النسر على أنه دجاجة ، لم يعرف عن نفسه إلا أنه دجاجة ، فلما رأى النسور تحلق عالياً قال : ـ أتمنى لو أستطيع أن أحلق مثلهم .. وتعالت ضحكات الاستهزاء من الدجاج .. ـ ما أنت إلا دجاجة ! جلس النسر الذي لا يعرف أنه نسر في ركن منزوياً ، مرت به الدجاجة التي ربته.. ـ مالك حزيناً يا بني ؟؟ ـ أريد أن أكون نسراً .. لكني للأسف دجاجة ! ـ وما أدراك أنك لست نسراً ، هل طرت وفشلت ؟ ـ نعم ! ـ وما أدراك أن تلك النسور لما بدأت تطير لم تفشل مرة ومرات .. إذا صدقت الأصوات القادمة إليك فأنت و ما صدقت ، وإذا استمعت للصوت البعيد الصادر من أعماقك ، فأنت في سبيلك لاكتشاف قدراتك .. لن تعرف أنك تستطيع إلا إن حاولت .. حاول يابني .. فإن استطعت فأنت نسر .. وإن لم تستطع فأنت ستكون ما أنت عليه الآن .. دجاجة .. لا تضع يدك على خدك ، بل تحرك لعلك تصرخ بعد أيام .. وتقول .. إني نسر .. نسر .. ولم أكن أعرف .. وستضحك وتقول : لو كنت استمعت لكلمات الدجاج ، لكنت مازلت دجاجة مثلهم . إن منهج عدم المحاولة ضد الفطرة ، لأنه منهج الاختباء في القبر خوف الموت ، صاحبه يقول : لو سافرت لربما حدثت حادثة في الطريق ، إذن لن أسافر . منهج العانس التي ظلت ترفض الخطيب تلو الآخر خشية ألا تنجح حياتها معه ، ونسيت أنها تساهم في صنع هذه الحياة ، وكم من امرأة أنجحت حياتها لأنها أرادت ذلك . ويرد الإمام على بن أبي طالب على هذا المنهج رداً عملياً : لما قال له أصحابه بعد أن أخبرهم أن ابن ملجم قاتله : ـ إذن فاقتله ! ـ كيف ؟ أيقتل مقتول قاتله ؟ وأي جرم نعاقبه عليه إن استبقناه ؟! ـ إذن اتخذ حرساً . ـ بل أجلي يحرسني .. يقصد أنه لو جاءه قاتله في غير أجله ما استطاع أن يقتله وإن كان نائماً بلا حارس ، لكن إن جاءه وقت أجله لوصل إليه وإن كان دونه جيوش مجيشة تحرسه . فالمصادرة منطق مقلوب ، كمن يمشي على رأسه ، لأنه يبنى قراره على النتيجة التى تترتب على القرار . يقول لن أعمل لأنني لن أصل إلى الهدف ، بينما المنطق المقبول أن تعمل ، وتترك العمل يستدعى نتيجته حتى لو كانت عدم الوصول . إن الخوف من الماء لا يُنتج أبداً ملامسة الماء ، لكن تكتشف أن جسمك يتحمل الماء إذا ظللت ت أما الحكم بعدم الوصول من البداية سقف البيت هو الأرضية التي تبني عليها . فلا تبني قرارك على النتيجة التي تنشدها ، بينما هي المجهولة المقدمة التي تصنعها ، فهل رأيتم الابنة تلد أمها ؟؟ السقف سيقع ، فلماذا نبني الأعمدة .. ؟؟ هاهو الأستاذ تشارلز برايس أستاذ العلوم يقف في محطة القطار ، يأتي القطار ، يركب بهدوء ، يرى تلميذته ذات الستة عشر ربيعاً بيتي قادمة من بعيد ، تأخرت ، وستنتظر القطار القادم ، الفتاة تبدأ في الركض ، كأنها تسبق نفسها ، وتلحق بالقطار ، وتصعد إلى متنه قبل إغلاق الباب بجزء من الثانية . أسمي تلك اللحظة بلحظة الروح ، إذ تتمركز الروح في عضو واحد فحسب ، كان بالنسبة لبيتي هو قدماها ، تحدث كثيراً ، ثم يرجع الإنسان إلى حياته كأن شيئاً لم يحدث ، وكأن الروح لم تخرج عن الجسد وتراها عين . لكن الأستاذ برايس رأى تلك الروح . وبدأت رحلته معها ، حفز الطالبة الصغيرة على احتراف رياضة الجري .. اجعل خط النهاية في السباق قطاراً يوشك أن يتحرك ، والحقي به كما فعلت اليوم . في العام التالي كانت تفوز بالميدالية الذهبية في ألمبياد أمستردام 1928 م ، ولا تكتفي بذلك ، بل تسعى أن تكرر الإنجاز مرة أخرى في دورة 1932 بلوس أنجلوس ، لكنها تتعرض لحادث سقوط طائرة مروحية ، انتهت إلى إصابتها بجروح عميقة في رأسها ، وتحطم ذراعها الأيسر ، وتعرض رجلها لثلاث كسور مختلفة .لتدخل في غيبوبة عدة أسابيع ، ولم تعد قادر على الحركة ، بل فقدت القدرة على الاستيقاظ ، ولابد أن يوقظها أحد ، وبعد محاولات : تمكن من السير من جديد .. لكن ضاع حلم الذهبية .. وتذكرت قولة أستاذها .. أنت تقدرين .. روحك تنقذك . وقررت أن تشارك في أولمبياد برلين 1936 ، بإرادة حديدية ، ولترجع بالذهبية . نعم .. يا أستاذي .. أنا أستطيع .


















