×
15 جمادى آخر 1447
5 ديسمبر 2025
المصريين بالخارج
رئيس مجلس الإدارة: فوزي بدوي

محاكمات هزت وجدان المصريين (5)

محاكمات هزت وجدان المصريين (5)
محاكمات هزت وجدان المصريين (5)

بقلم : د.ماهر جبر 

تاريخ مصر مليء بالعَبراتِ والعِبر التي تُبكي الحجر من قسوتها، ولا نكاد نعرف من هذا التاريخ الا النذر اليسير، فلو كانت معرفتنا عن دنشواي قليلة، فإن حكايتنا اليوم أكاد أُجزم أنا لا نسمع عنها من قريب أو بعيد، ولم يأتي ذكرها الا في كتاب (مآذن ديرمواس) للكاتبة كوثر عبد السلام بحيري، ولم أستطع العثور عليه، فعلمنا بتاريخنا قطرة، وجهلنا به محيط، ذلك أن دنشواي قيض الله لها مصطفى كامل فذاعت وقائعها في العالم أجمع، أما دير مواس وهي موضوعنا اليوم فلم تسمح إنجلترا بالحديث عنها، وتم حظر النشر فيها نظراً لتفعيل قانون المطبوعات الذي قُتل بسببه بطرس غالي كما ذكرنا سالفاً، ولو كانت دنشواي في شمال مصر، وان كان ملهمها وزعيمها زهران ورفاقه، فإن دير مواس في جنوبها، وبطلها دكتور خليل أبوزيد، هكذا مدن مصر وقراها تتداول البطولة واحدة تلو الأخرى، فتتصل حبات عقد الجهاد في ربوعها مضيفةً لها هذا الشرف العظيم، والآن هيا بنا نحكي ما حدث ؟.

مازلنا الآن في عام 1910م، وهو عام إستشهاد ابراهيم الورداني قاتل بطرس غالي باشا، إلا أن المكان غير المكان، فالمشهد الآن في دير مواس إحدى قرى أسيوط، حيث لقاء على شاطيء إحدى الترع يجمع بين عمدتها أبوزيد، والشيخ عبد الرازق أحد أعيان قرية أبو جورج بالبهنسا، يتجاذبان أطراف الحديث الذي لا يخلو في هذا التوقيت من ذكر المحتل الإنجليزي وفظائعه التي يرتكبها كل يوم في أنحاء القطر المصري، بالقرب منهم بعض الفلاحين يحرثون الأرض، ويرتلون بعض التراتيل الحزينة، يختلط بها نواح السواقي، وكأنها تعزف لحناً حزيناً ينبىء عما ستمر به هذه القرية في القريب من الفظائع والمآسي ، المشهد الآخر من الصورة لبيوت القرية خالية من كل ما ينبىء عن وجود حياة، إلا من أطفال يلعبون، ونساء توشحن بالسواد، فالحزن يلف البيوت، لفقد عائل الأسرة أو أحد أبنائها اللذين أُجبِروا على العمل بالسخرة في بلاد بعيدة، وإستولى الإنجليز على أقواتهم، بل حتى على حيواناتهم، نقطة الضوء الوحيدة تمثلت في تكاتف أعيان القرية لمواجهة هذا الفقر،فكانت نساءهم تقضي يومها في مساعدة بيوت الفقراء.

اتفق الشيخان على أنه لا يمكن مقاومة المحتل وإخراجه من البلاد بالمظاهرات والسلاح فقط، إنما يجب التسلح بالعلم أيضاً، لذا تفتق ذهنهما عن فكرة وهي ضرورة إرسال كل منهم ولده لإكمال تعليمه في الخارج، فالعمده أبو زيد يرسل ولده خليل لدراسة الزراعة، بينما الشيخ عبد الرازق يرسل ولده ليكمل تعليمه بعد الإنتهاء من دراسته في الأزهر، علهم بعد عودتهم يشاركون بعلمهم وعملهم في رفعة شأن بلادهم، وجلاء المستعمر عنه، كانت هذه أحلام اليقظة التي تداعب خيالهم، ويتضرعون الى الله لتحقيقها، وتم إختيار جامعة إكسفورد لكي يسافر لها خليل أبو زيد، فما أن إنتصف عام 1910م حتى ودع أهله وذويه في طريقه الى إنجلترا حيث الهدف دراسة الزراعة هناك.

مرت السنوات الأربع اللازمة لإتمام خليل لدراسته، وإقترب تحقيق حلم العودة الى مصر الذي طالما داعب خياله، فحزم حقائبه، وإستعد للرحيل، غير أن المفاجأة التي كانت تنتظره هي قيام الحرب العالمية الأولى عام 1914م، والتي أوقفت كل رحلات السفن من مصر الى إنجلترا والعكس، وكان من نتيجة ذلك قضاء خليل أبوزيد أربع سنوات أخرى حتى انتهت الحرب في عام 1918م، وهي السنة التي عاد فيها الى مصر. كانت الأجواء في مصر في تلك الأثناء توحي بإندلاع الثورة في كل مكان من أدناها الى أقصاها، فالنار تحت الرماد، كجزوع الشجر الجافة التي تنتظر شرارة صغيرة حتى تشتعل معظم النيران، وكانت الشرارة التي أشعلت نار الثورة في كل ربوع مصر هي إعتقال زعيم الأمة خالد الذكر سعد زغلول ونفيه ورفاقه ( فتح الله بركات باشا، عاطف بركات، أحمد الباسل باشا، إسماعيل صدقي، سينوت حنا، مكرم عبيد، محمد محمود باشا )، نعم إشتعلت الثورة بين الطلبة والعمال والفلاحين، ولأول مرة يحدث هذا التطور الإجتماعي في الثورة وهو خروج المرأة ثائرة، ومشاركتها كما الرجل في المظاهرات والإضرابات مما أدى الى سقوط شهيدات منهن، كما أن الثورة أصَلَت أيضاً لشيء آخر وهو إتحاد عنصري الأمة، فتعانق الهلال مع الصليب، وخطب علماء الأزهر من داخل الكنائس، بينما تبارى القساوسة في إلهاب حماس العامة من فوق منبر الأزهر، وغيره من المساجد في كل ربوع مصر .

في هذا الجو الثائر عاد خليل أبوزيد من رحلته فوجد المظاهرات على أشد ما تكون في الصعيد عامة ودير مواس تحديداً، نظراً لطبيعة أهلها الرافضة للإستعمار والغاضبين كما المصريين جميعاً لإعتقال سعد ورفاقه، كونهم يمثلون رمزاً لهم في رغبتهم التحررية من الإستعمار.

كان من أشد الثائرين مع خليل توأم روحه وصديقه وابن عمه عبد الرحمن، في هذا الوقت كان من الخطباء الثائرين أيضاً قبطي يُدعى جرجس بك حنا المحامي المشهور في بندر أسيوط، فدعاه خليل لزيارته في دير مواس، فلبى جرجس الدعوة على الفور لما يعرفه عن وطنيته، وتنظيمه لإجتماعات سرية لشحن همم المواطنين وإلهاب حماسهم ضد المستعمر .

بعد القبض على سعد ورفاقه خرجت المظاهرات من القاهرة والإسكندرية، الا أنها خرجت أكثر شدة من القرى والكفور والنجوع، ولا يعود ذلك فقط لأنهم يرون في سعد ورفاقه رمزاً للأمة، وإنما أيضاً لما تعرضوا له أثناء استخدامهم في السخرة من ذل ومهانة كخدم وعمال للجيش البريطاني في الحرب العالمية الأولى، فتم إستخدامهم لرصف الطرق، وتركيب قضبان السكك الحديدية، كما استولى الإنجليز على ممتلكاتهم ، بدعوى تغطية نفقات الجيش البريطاني.

تقول الدكتورة عالية مسلم ( باحثة في الوثائق الإنجليزية )، أنها وجدت أن الإنجليز جندوا 27000 فلاح كعمال في الجيش البريطاني، وأنها وجدت ضمن الوثائق أغنية حزينة يغنيها الفلاحون وهم يعملون في أماكن بعيدة عن الوطن تقول كلماتها (يا عزيز عيني وأنا بدي أروح بلدي، بلدي يا بلدي والسلطة أخدت ولدي، وهي التي لحنها وغناها بعد ذلك فنان الشعب سيد درويش.

إتفق خليل أبوزيد وجرجس بك على تكوين وفد من أعيان دير مواس والقرى المجاورة، على أن يتوجهوا لمقابلة المندوب السامي البريطاني في القاهرة، ويقدموا له إحتجاج على ما يحدث لأهالي هذه البلاد من جنود المستعمرين من سلب ونهب وإغتصاب للنساء، كما يطالبون بالإفراج عن سعد ورفاقه .

كان خليل أبوزيد مسموع الكلمة في قريته، وكان كثير التحدث في الأهالي ليلهب حماستهم، ومما يُحكى في ذلك إعلانه رفض تولي أي عمل في مديرية الزراعة، طالما أن كوكسن باشا الإنجليزي في مكانه، وهنا حدثت الشرارة الأولى، حيث أضمر أحد الفلاحين ويُدعى (نور المراكبي) في نفسه قتل كوكسن باشا، فأطلق عليه عياراً من بندقية سرقها من أحد الجنود الإنجليز فأرداه قتيلاً، وإتُهم خليل أبوزيد بأنه وراء قتل كوكسن بغرض تولي منصبه في مديرية الزراعة، واستمرت التحقيقات معه وذويه مدة طويلة، لكنهم لم يستطيعوا إدانته .

أراد الوفد المكون من الأعيان الذهاب الى القاهرة لقضاء مهمتهم كما أسلفنا، غير أن الإتفاق كان يتضمن الإلتقاء أولاً في منفلوط للإجتماع بأعيانها وتحضير ما سوف يعرضونه على المندوب السامي البريطاني، وعلم بذلك أحد الخائنين من الباشوات، فرأى أنه لا حل لمنع ذلك الإجتماع الا بتعطيل القطار المتجه الى ديروط، وكان خليل وجرجس بك وعبد الرحمن يتناوبون إلقاء الخُطب في الجمع الغفير من الفلاحين اللذين زحفوا الى محطة القطار من كل القرى والمدن المجاورة، وهنا علموا بتعطل القطار فقرروا إنتظار القطار التالي، وكانت فرصة لتوافد كثير من الأهالي، والقاء الكلمات لزيادة حماستهم.
عند مجيء القطار زحف الآلاف من المتظاهرين كي يجدوا لهم مكان داخله، فلم يعُد موضع لقدم به، وحاول خليل ورفاقه من الأعيان وسط الزحام حتى دخلوا الى غرفة الطعام الخاصة بالقطار، وأغلقوا عليهم الباب، لكنهم فوجئوا بالجنود الإنجليز وقد أشهروا البنادق في وجوههم وهم يرتعدون، فطمأنهم خليل وأفهمهم بأنهم لا يريدون قتلهم، إلا أن أحد الضباط كان متغطرساً، وأبدى إزدراءه للحاضرين واحتقارهم، وهنا وصل القطار الى ديروط، غضب خليل ومن معه من الضابط الإنجليزي، وما أن نزل المتظاهرين من القطار، حتى حاول السائق الإنطلاق به متوجهاً الى القاهرة، في نفس الوقت طلب جرجس بك من الأهالي إيقاف القطار، تقول الحكاية أن أحد الفلاحين ويُدعى (عرفه الأشول) قفز الى عربة السائق وأخرجه منها، إلا أن خطأ كبيراً وقع في نفس اللحظة، حيث أشار عبد الرحمن للمتظاهرين على عربة الطعام في القطار والموجود بها الضباط الإنجليز، فإنطلقوا اليها وفي مقدمتهم عرفه الأشول، فأسرع السائق الإنجليزي وتحرك بالقطار، بينما الناس على رصيف القطار وعلى قضبانه، فكانت مذبحة عظيمة، حيث تم فرم جثث الفلاحين وتمزقت أشلائهم تحت عجلات القطار، وتدفقت بحور من الدماء، وصعدت روحهم الطاهرة تشكو لخالقها ضعفها وقلة حيلتها، وهوانها على الناس، بينما تم قتل الضباط الإنجليز والتمثيل بهم وسط صيحات ( تحيا مصر، يحيا سعد، يسقط الإنجليز ).

فما كان من المحتل الا محاصرة المنطقة الحدودية بين أسيوط والمنيا، وأصبحت دير مواس ثكنة عسكرية، مما أدى الى إعلان ما سمي بإمبراطورية المنيا، وأقام الثوار رياض الجمل المحامي القبطي رئيساً لها، وهنا ملاحظة هامة وهي أن إعلان يوسف الجندي لجمهورية زفتى في 1920م، وإستقلاله بها لم تكن السابقة الأولى وإنما سبقها إعلان إمبراطورية المنيا .

دخل الضباط والجنود ديرمواس للقبض على الثائرين والتنكيل بهم جزاء ما ارتكبوه بحق الضباط الإنجليز، لكنهم لم يكونوا يعرفون المتهمين تحديداً بل فقط أسمائهم كما أملاها عليهم أحد الخائنين، ولم يكن لأحد أن يتحدث معهم إلا خليل ابوزيد نظراً لإجادته اللغة الإنجليزية، وفهم منهم أنهم يريدون القبض على الأسماء المكتوبة معهم، فطلب منهم الإطلاع عليها وأعاد قراءتها جيداً حتى حفظها، ثم قال للضابط الإنجليزي إن هؤلاء فلاحين يذهبون الى حقولهم في النهار، ويعودون متعبين ليلاً فيسهل القبض عليهم، واستحسن الضابط هذا الرأي وشكره عليه، وكانت هذه فرصة لهروب المطلوبين، جُن جنون الإنجليز عندما علموا أن من تحدث معهم هو رأس القائمة المطلوبة، فعاثوا في القرية فساداً وتخريباً، فحرقوا البيوت، واعتدوا على النساء والأطفال، ولم يتركوا منكراً الا فعلوه، كما قبضوا على كثير من الأهالي، وفي النهاية تم القبض على خليل أبوزيد ورفاقه وكان عددهم أكثر من 300 رجل، وجهت لهم المحكمة تهم الإرهاب، ومحاولة قلب نظام الحكم، وكالعادة كانت المحاكمة صورية، وانتهت بالحكم على خمسين منهم بالإعدام، في مقدمتهم دكتور خليل أبوزيد، عبد الرحمن ابن عمه، وذلك في صبيحة يوم 17 يونيو 1919م، الساعة السادسة في سجن أسيوط العمومي، حيث نصب الإنجليز خمسون مشنقة وأعدموا الجميع على المشانق في لحظة واحدة، وتم دفنهم في مقابر جماعية، الا خليل وعبد الرحمن فقد تم تسليم جثتيهما الى ذويهم، وتمت مصادرة أملاكهما .

هذا هو الدكتور خليل أبوزيد وهذه حكاية ديرمواس، فهل يعرفه أو يعرفها أحد ؟، تلك هي النماذج المضيئة من تاريخنا المجيد والتي يجب تسليط الضوء عليها لا غيرها.
وأخيرًا ألا يجب مطالبة إنجلترا بالتعويض عن هذه الجرائم التي فاقت كل تصور، أرى أنه يجب المطالبة بالتعويض عن ثلاثة جرائم هي:. مذبحة دنشواي، إعدامات ديرمواس، العدوان الثلاثي.

استطلاع الرأي

أسعار الذهب

متوسط سعر الذهب اليوم بالصاغة بالجنيه المصري
الوحدة والعيار الأسعار بالجنيه المصري
عيار 24 بيع 3,566 شراء 3,589
عيار 22 بيع 3,269 شراء 3,290
عيار 21 بيع 3,120 شراء 3,140
عيار 18 بيع 2,674 شراء 2,691
الاونصة بيع 110,894 شراء 111,605
الجنيه الذهب بيع 24,960 شراء 25,120
الكيلو بيع 3,565,714 شراء 3,588,571
سعر الذهب بمحلات الصاغة تختلف بين منطقة وأخرى

مواقيت الصلاة

الجمعة 06:19 مـ
15 جمادى آخر 1447 هـ 05 ديسمبر 2025 م
مصر
الفجر 05:04
الشروق 06:36
الظهر 11:45
العصر 14:36
المغرب 16:55
العشاء 18:17