×
15 جمادى آخر 1447
5 ديسمبر 2025
المصريين بالخارج
رئيس مجلس الإدارة: فوزي بدوي

محاكمات هزت وجدان المصريين (7)

محاكمات هزت وجدان المصريين (7)
محاكمات هزت وجدان المصريين (7)

بقلم : د.ماهر جبر 

محاكمة اليوم ليست ككل المحاكمات، فلم تتم إجراءاتها في دار المحكمة كما هو معتاد، ولم تُشكل من هيئة القضاة، والدفاع، وممثل الإدعاء، وإنما هي محاكمة أوعَز بها ساري عسكر كليبر القائد العام للحملة الفرنسية لأهل بولاق، فكانوا القضاة والجلادين، بينما المتهم في هذه القضية هو من ضحى من أجلهم، وأراد إنقاذهم من الغرق، فأغرقوه، وكان جزاؤه الإهانة والقتل.

والحكاية ترتبط بثورة القاهرة الثانية حيث أيقن كليبر بعد رحيل بونابرت عن مصر وترك قيادة الجيش له، أن بقاء الحملة الفرنسية في مصر دون جدوى، لذا اتصل بالعثمانيين واتفق معهم على الجلاء عن مصر، وتسليمهم قيادتها مرة أخرى، وتم ذلك في معاهدة العريش في 24 يناير 1800م، على أن ترحل القوات الفرنسية على نفقة العثمانيين حتى تصل إلى فرنسا، إلا أن إنجلترا رفضت ذلك وأصرت على تسليم الفرنسيين أنفسهم كأسرى حرب لهم، فرفض كليبر ذلك في الوقت الذي كانت القوات العثمانية قد وصلت الى مشارف القاهرة، مما شد من عضد الثوار فكانت ثورة القاهرة الثانية التي إندلعت في 20 مارس 1800م، والملاحظ هنا أن ثورة القاهرة الثانية لم تكن كسابقتها من حيث قادتها فلم يكن قادة الثورة هنا طلاب ومشايخ الأزهر فقط، بل كان العنصر الفعال هو التجار والأعيان لا سيما زعيمها وقائدها شهيد الوطنية الحج مصطفى البشتيلي. 

لم يكن مصطفى البشتيلي من عامة الناس اللذين يريدون التخلص من الإستعمار طمعًا في تحسن الأوضاع وأحوال المعيشة، فقد كان شهبندر التجار، أي كبيرهم وأثرى أثريائهم، لذا فلا شيء يقدح في وطنيته، فقد كان أولى به أن يعيش في ركاب الإحتلال، بل يستفيد كثيرًا كتاجر من التعامل معهم، لكنه استطاع بذلك تفنيد القاعدة التي تؤكد في الغالب الأعم أن الأثرياء هم الأميل إلى الخيانة وممالأة العدو، وأن الفقراء دائماً مثال للتضحية والفداء، فقد يكون الفقر سببًا للخيانة، ويكون الثراء سبباً للتضحية من أجل الوطن بالغالي والنفيس، والأمثلة على ذلك كثيرة. 

ذكرنا أنه عندما قامت ثورة القاهرة الثانية، كان من زعمائها كالعادة طلاب ومشايخ الأزهر، مثل نقيب الأشراف عمر مكرم، والشيخ الجوهري، والشيخ أحمد المحروقي، إلا أن أهم قائد لهذه الثورة كان بلا ريب التاجر مصطفى البشتيلي الذي لم يذكر عنه التاريخ شيئاً، فقد أنفق هذا الرجل معظم ماله في تسليح الثوار، كما كان يُخفي هذا السلاح في أماكن سرية داخل دكانه، غير أن أحدهم كالعادة وشيَ به للفرنسيين فقاموا بتفتيشه وأخرجوا الأسلحة المخبأة عنده، وتم اعتقاله عدة أشهر ثم أُطلق سراحه، ليعود بعدها إلى مساعدة الثوار مرة أخرى، ويتزعمهم ويبث روح الوطنية فيهم، فيهاجمون مخازن السلاح والحبوب والغلال الموجودة في حي بولاق، ويقتلون حراسها، مما جعل كليبر يستشيط غضباً فيستخدم كل قوته لتخريب القاهرة عامة، وحي بولاق خاصة. 

يقول الجبرتي عن هذه الثورة ( أما بولاق فإنها قامت على ساق واحدة، وتحزم الحج مصطفى البشتيلي وأمثاله وهيجوا العامة وهيأوا عصيهم وأسلحتهم، ورمحوا وصفحوا، وأول ما بدأوا به أنهم ذهبوا الى وطاق الفرنسيين الذي تركوه بساحل البحر، وعنده حرس منهم، فقتلوا من أدركوه منهم ونهبوا جميع ما به من خيام ومتاع وغيره، ورجعوا إلى البلد، وفتحوا مخازن الغلال والودائع التي للفرنساوية، وأخذوا ما أحبوا منها، وعملوا كرانك حول البلد ومتاريس ). 

أجبرت المقاومة كليبر على حصار بولاق من الخارج، والسعي في طلب الصلح للمهادنة وإنهاء الثورة، لكن الحاحه كان يُقابل دائماً بالرفض، وفهم كليبر أن البشتيلي هو الذي يرفض وقف المقاومة عن طريق وشاية من شخص يُدعى عثمان كتخدا، والذي كلفه بالوساطة، فكان رد البشتيلي برسالة مكتوب فيها ( إن الكلب يقصد كليبر، دعانا للصلح فأبينا فلا تُحرج نفسك بطلب هذا الأمر).

سلم كتخدا الرسالة الى كليبر، وهنا قرر أن يقمع الثورة بأي طريقة وبأي ثمن، فهدم الحارات، وحرق البيوت، وسبى النساء، ونهب الأموال، وبذلك استطاع إخماد الثورة، لكنه لم يتمكن من القبض علي البشتيلي، فأعلن عن مكافأة لمن يقبض أو يدلي بمعلومات تؤدي للقبض عليه، وهنا أيضًا تُطل الخيانة والنذالة برأسها من جديد، فيتم إعتقال عائلته ومعارفه، وهكذا يتم القبض على البطل المجاهد. 

وهنا يقف التاريخ شاهدًا وساخرًا من مأساة لا يُصدقها عقل أو يستوعبها فهم، فإن كنا لم نقبل سلفًا ما فعله التجار مع محمد كُريم حاكم الإسكندرية، حينما تخلوا عنه، ولم يدفعوا له ماله مما أدى الى عدم إفتداء نفسه من نابليون وبالتالي إعدامه، فإن ما حدث مع مصطفى البشتيلي لمما يشيب له الولدان، وتقشعر منه الأبدان، ويصيب العقل بالذهول. 

تقول الحكاية إن قائد الحملة الفرنسية عندما قبض على مصطفى البشتيلي تركه عدة أيام في المعتقل، ثم بزغت في رأسه فكرة وهي أن إعدامه سيرفع قدره بين الناس، ويتم التغني ببطولته، وهو لا يريد أن يمنحه هذا الشرف، فجمع أهل بولاق والثوار المعتقلين معه، وأخبرهم أن البشتيلي هو السبب فيما آل اليه حال القاهرة، فهو المتسبب في قتل أطفالهم وسبي نسائهم وحرق بيوتهم، وأنه لولاه لما فعل الفرنسيون ذلك معهم، فهم إنما كانوا رد فعل لجرائمه التي إرتكبها في حقهم، ثم أغراهم لكي يفتدوا أنفسهم وأولادهم ويعودوا الى بيوتهم وتجارتهم، بأن يقوموا بتجريسه، والتجريس عند المصريين في ذلك الوقت، يعني وضعه مربوط اليدين من الخلف على ظهر حمار بالمقلوب، ثم يطوفون به الشوارع على هذا الوضع. 

المُذهب للعقل أن أتباعه ورجاله من الثوار المعتقلين، وأهل بولاق وافقوا على ذلك، فطافوا به الشوارع، وكان كلما مر به أحد بصق على وجهه، وصفعه، وسبه، وفي ختام هذا المشهد المأساوي إنهالوا عليه ضرباً بالنبابيت حتى قتلوه، وفيهم رجاله اللذين قادهم في الثورة ضد الفرنسيين، وربما أغدق عليهم العطايا من ماله الوفير، فكيف نحكم على هؤلاء، هل هناك فعل أحقر من ذلك، وهل هؤلاء مصريون، والله إنهم سبة في جبين مصر تُعير بهم أبد الدهر. 

ورحل البطل مصطفى البشتيلي، يشكو لخالقه ظلم وقهر وإهانة من ضحى من أجلهم بماله وراحته، وليته ما فعل،ثم يخرج علينا من يحاول تبرير هذه الفعلة الشنيعة بقوله إن رجاله من الثوار إنما فعلوا ذلك خوفًا من عقاب الفرنسيين، وهو ما يمثل عذرًا مرفوض شكلًا وموضوعًا، ثم إن كان هذا موقف الثوار، فلماذا لم يحميه ويدافع عنه أهل بولاق ضد هؤلاء الرعاع والغوغاء. 

بموت مصطفى البشتيلي حقق الجنرال كليبر عدة أهداف في لحظة واحدة، فتم له التخلص من هذا البطل العظيم، على هذا الشكل المؤسف والأكثر من درامي، كما زرع الحقد والفتن بين المصريين، بل وقتل روح الوطنية في قلوب أغلبهم، إذ أصبح لا يوجد من يستحق التضحية من أجله، غير أن كليبر تنكر لهؤلاء الغوغاء، ولم يعودوا إلى بيوتهم بل ذهبوا إلى مستنقع التاريخ يذكرهم في أسود صفحاته، تطاردهم لعنة روح البطل العظيم وذلك بعد أن أعدم ساري عسكر معظمهم، وأوردهم جميعًا موارد الهلاك، مذكرًا إياهم بأن من يقتلوا بطلًا كهذا دافع عنهم لا يستحقون الحياة. 

ولما كان ربك يُمهل ولا يُهمل، فلم تمر عدة أشهر إلا وقام الطالب الأزهري سليمان الحلبي بقتل القائد الفرنسي، كما ذكرنا في مقال سالف، وكان السبب الرئيسي لذلك هو الانتقام للبشتيلي، ثم غادرت الحملة الفرنسية مصر مصحوبة باللعنات، ولتترك آثارها على على خدود وصفحات الأحجار، لتحكي لنا قصة ملوك أبطال ضحوا بدمائهم من أجل تراب هذا البلد، وعبيد خونة باعوا كل شيء لقاء منصب أو جاه. 

هذا هو مصطفى البشتيلي، سطر مضيء في سجل البطولة الخالد، يقيني التام هو عدم معرفة أحد له، وهذا أيضًا ظلم يُضاف لما وقع عليه من ظلم، فلا أقل من أن نحاول إزاحة التراب من على هذه اللآليء المضيئة من نجوم بلادي. 

إلى لقاء مع محاكمة أخرى هذت وجدان المصريين .

استطلاع الرأي

أسعار الذهب

متوسط سعر الذهب اليوم بالصاغة بالجنيه المصري
الوحدة والعيار الأسعار بالجنيه المصري
عيار 24 بيع 3,566 شراء 3,589
عيار 22 بيع 3,269 شراء 3,290
عيار 21 بيع 3,120 شراء 3,140
عيار 18 بيع 2,674 شراء 2,691
الاونصة بيع 110,894 شراء 111,605
الجنيه الذهب بيع 24,960 شراء 25,120
الكيلو بيع 3,565,714 شراء 3,588,571
سعر الذهب بمحلات الصاغة تختلف بين منطقة وأخرى

مواقيت الصلاة

الجمعة 10:32 مـ
15 جمادى آخر 1447 هـ 05 ديسمبر 2025 م
مصر
الفجر 05:04
الشروق 06:36
الظهر 11:45
العصر 14:36
المغرب 16:55
العشاء 18:17