محفظة باري

بقلم : د.صلاح شفيع 

كل ما يجب عمله ، فيجب أن يعمل باتقان ، هذا أمر لا خلاف عليه ، وما قوله إلا للتأكيد عليه ، لكن لبس هذا ما أريد أن أؤكده اليوم ، ما أريد أن أقرره هو أن العمل الذي سيتم فيما بعد فالآن وقته . 

قديماً قالوا : لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد ، لكني لا أقصد تكرار تلك الحكمة بألفاظ أخرى ، فهناك اختلاف جوهري بين حكمة القدماء : لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد ، وبين ما أريد استخلاصه اليوم ، ما سيتم فيما بعد فالآن وقته ، فالأولى تطلب منك ألا ترحِّل عمل اليوم إلى الغد ، والثانية تستجلب عمل الغد إلى اليوم. 

إن الوقت المبكر استعجال للثمرة ، إن تزرع الشجرة اليوم بدلاً من الغد ، فقد ربحنا ثمرة واستعجلنا سعادة ، إن تتزوج اليوم قبل الغد تعش مع ابنك يوماً زائداً . 

إن مخالفة تلك القاعدة تنتهي دوماً بتحجيم المكاسب ، وربما بمنعها . إن الفريق القادر على الفوز ، ويتلكأ انطلاقاً أنه قادر على تحقيق الفوز في أي وقت ، يدفع غالباً ثمن هذا التلكؤ ، عندما يضيق الوقت ، ويتقدم الفريق الآخر بغلطة ما ، ويستبسل الضعيف ، وكلما اقترب الوقت زادت عصبية القادر ، ودفع ثمن أنه لم يلتزم بتلك القاعدة ، ما سيتم بعد ، فالآن وقته . 

يحكي أن هانيبال بدلاً من أن يحتل إيطاليا ، قرر التأجيل ليوم ، ورأى أنه لا داعي للعجلة ، فهي في يده ، ويمكنه إسقاطها في الوقت الذي يحب ، وغفل عن أن الشيء الذي لابد أن تفعله الآن ، تكسب مزاياه في الوقت المكسوب ، وتنجو من خسائره . أتعرفون ماذا حدث ؟ لم تسقط روما في يده ، وانتهى الأمر أن انقلب القتال ضده ، وسقطت بلده هو قرطاجنة في يد العدو . 

الوقت هو الإنسان .. كلاهما وجهان لعملة واحدة . فلا يمكن أن تفصل أحدهما عن الآخر ، وأعظم إنجازات الإنسان أن يمكنه أن يفعل أشياء كثيرة في وقت قصير .

ما الفارق في القيمة بين الطائرة والحمار ؟ كلاهما وسيلة مواصلة يركبها الإنسان ، لكن إذا أردت أن تسافر من القاهرة إلى الصين على حمار ، فانظر كم تحتاج من السنوات لتصل إلى هناك ، لكن لو ركبت طائرة فسوف تصل في اليوم نفسه .  

الوقت إذن هو الفرق بين هاتين الوسيلتين . وكذلك الوقت هو الفرق بين اثنين في المجال نفسه ، إذا أردت أن تكون موجوداً ، فيجب أن يكون الوقت عجينة في يدك . يجب أن تؤمن أنك تقدر أن تفعل الكثير في وقت قصير . إن أروع لحظاتي تلك التى ألعب فيها مع الوقت ، كأنها الهواية الممتعة أن تسابق الوقت وتسبقه ، ولذلك أصبحت كثيراً ما أتعمد عدم التحرك ، فإذا ضاق الوقت بدأ ت العمل ، وأنا في أقصى توحدي مع نفسي ، واثقاً أن الوقت الباقي كافٍ لإنجاز المهمة . 

وقد أفادتني اللعبة جداً ، فقد أكسبتني مهارة أن أقدم الكثير في وقت قليل ، حتى وصل بي الأمر في مادة كالنحو أن أشرحها في ساعتين ، فيتمكن بعدها الطالب أن يعرب الصفحة . 

وقد كتبت في كتاب السعادة ها هنا أن الإنسان هو الوقت ،وعندي أن الذي يضيّع وقته كمن يقطع أحد أعضاء جسمه ، ومن يضيع وقته هو عندي في حكم المنتحر . ومن يضيعون وقتك هم في حكم القتلة فلا يجب أن تتخذهم أصدقاء ، وقد كان ثمة لص في لندن لا يسرق إلا الأثرياء ، كان اسمه أرثر باري تخصص في سرقة المجوهرات ، حتى أصبح خبيراً فيها ، وقُبض عليه فقضى ثماني عشرة سنة في السجن ، فلما خرج سأله أحدهم : مَن أشهر من سرقته ؟ فقال : أرثر باري (يقصد نفسه ) هو أكبر شخص سرقت منه . كان يقولها بصدق ووجهه في الأرض ، لأنه سلب المجتمع أشياء الثمين ،وسلبه المجتمع أثمن أشياءه ، سلبه عمره . 

 إن الإنسان يعيش بين لحظتين ، ميلاده ووفاته ، لو أردنا تعريفاً للإنسان لقلت إنه مساحة زمنية ، جسمه مسام وقتية ؛ لذلك أرى أرى أن من يجتهد فى إضاعة الوقت كأنه يقطع أجزاء من جسمه . . وحكمه فى نظرى حكم المنتحر . أليس الله سيحاسبه على عمره فيم أفناه ؟؟ وماذا خسر المنتحر سوى الوقت المتبقى من حياته ؟ وصدق من قال :“ليبارك الرب كل الذين لا يسببون لى ضياع وقتى ”. 

لذلك لا أومن أبداً بأن الوقت لا يكفى ، قد يكون الوقت قصيراً ، لكن يمكن أن يتمدد بتلك القوة الروحانية التى تجعل الإنسان يفعل الكثير فى وقت قصير . وكم من عظيم لم يعش كثيراً فكيف حقق العظمة فى وقت قصير ؟؟  “الإنسان هو الوقت ” ، هذا ليس قولة مأثورة لأحد ، بل هى فلسفتى .

قال الحسن البصري : أدركت أقواماً كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصاً على دراهمكم ودنانيركم . وذلك لأن سلعة الله غالية ، سلعته الجنة ، والجنة لا تدرك إلا بتقديس الوقت ، واستغلاله قبل أن يمضي في العمل ، لن الوقت هو الأرض التي تزرع فيها الأشجار التي تحملك إلى الجنة ، فاحرص على الوقت تكن مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم : احرص على ما ينفعك ، وقد حث النبي صلي الله عليه وسلم على كل ثانية من الوقت ، فقال : إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة ، فإن استطاع أن يغرسها فليغرسها . 

إن الوقت إذا ذهب لم يرجع ، وأي قيمة للذهب إن سقط من يدك في بحر عميق ، تلك هي المصيبة أن لا تعلم أن الوقت من ذهب إلا بعد أن يسقط منك الذهب في هذا البحر ، ولذلك قيل : كثير من الناس لا يدركون أن الوقت من ذهب إلا بعد أن يكون العمر قد ذهب ،وأنا أقولها بشكل أكثر اختصاراً : لا يدركون أن الوقت من ذهب إلا بعد أن يكون قد ذهب . 

إن أروع ما في الحياة أنها رحلة ،وأروع ما في الرحلة هي الرحلة نفسها ، والوقت هو القطار الذي يقلنا في تلك الرحلة ، فأروع من الحياة نفسها هو قطارها الذي يحملنا ، فإن كانت الحياة تهدف للوصول إلى جزيرة الكنز ، فالوقت هو السفينة التي ستوصلك إليها ، إن الوقت هو الرحلة . 

إن من يفوز بالبطولة سيجد أن السعادة هي اجتراره لذكريات خطوات الوصول إلى الرحلة ، عندما تصل السفينة إلى الجزيرة المنشودة سيقف القبضان يسأل ركاب السفينة ماذا استفدتم من الرحلة ؟؟ من استمتع بالرحلة قال له : تستحق أن تنزل إلى الجزيرة وتحصل على الكنز ، أما من نام طيلة الرحلة في انتظار الوصول إلى الجزيرة ، قال له لا تستحق النزول إليها ولا الفوز بكنزها. 

إن الحياة وسيلة إلى سلعة الله الغالية : الجنة ، والوقت وسيلتنا لعمل الخير للوصول إلى الجنة . إذا أدركت ذلك اكتشفت ستعرف يقيناً أن كلا من الحياة والوقت شيء واحد ، وأنهما وجهان لعملة واحدة ، ومادام الوقت لا يفترق عن الحياة ، فمن يضيع الوقت لا يفترق عن المنتحر الذي يضيع الحياة ، ومن يؤجل العمل ، يؤجل الحياة.