ابعد مسافة ولاتبعد مشاعر
كتب : د.محمد بدير الجلب
الزمتنا "كورونا" بالتباعد، وحددت المسافات بين الناس، ووضعت العلامات الإرشادية لموقع قدميك أو مكان جلوسك، وجاءت الكمامة لتضع هي الأخرى مسافات؛ فلا قبلات، ولا عناق، وأصبحت حساسيتنا عالية نحو من يعطس، فبمجرد عطسة واحدة تجد قفزات مهرولة كأنها تهرب من رصاصات من مدفع رشاش.هكذا جعلتنا "كورونا" نبتعد عمن نحب لمجرد تصور الإصابة بهذا الفيروس اللعين، وأظهرت لنا أنانيتنا المفرطة في حب انفسنا والدفاع المستميت لحمايتها.
وبالطبع ليس مع كورونا مجال للشهامة واختراق حدود الأمان الصحية وتجاهل الشعارات الإرشادية "حافظ على نفسك وحافظ على وطنك"، ولم يعد للفتونة وجود في مواجهة كورونا بعد مانشاهده من قوتها القاهرة التي هزمت كثير من الأقوياء والأغنياء، ورأينا بأعيننا جبروتها الغاشم الذي قهر شعوبا قوية، واضعف دولًا عملاقة، وحطم اقوى حصون الدول.
هذا "الكورونا" المتوحش حفر في عالمنا عزلة دولية بعد أن تقطعت أواصر الاتصال بين دول العالم، فتوقفت الطائرات وكافة وسائل التنقلات، فانعزلت الدول داخل حدودها، وأصبحت الحياة السياسية والاقتصادية، حتى الشخصية، تدار عبر الأثير بدون تواصل شخصي مباشر. فهل يشهد العصر المقبل تغيرًا في مفاهيم الاتصال التي كانت تؤكد على أن افضل أشكال الاتصال وأقواها هو الاتصال الشخصي المباشر وجهًا لوجه مع من تقابل لترى ملامح وجهه وتتعرف مباشرة على مشاعره وترى الفرحة أو الحزن في عينيه، فتتفاعل معه وتعيش معه لحظات مشاعره، وتحتضنه وتقبله لتنقل إليه حرارة مشاعرك..أم سنظل طويلًا خائفين أن نتبادل سويًا فيروس كورونا مع الحضن والقبلة؟
من الصعوبة أن يموت شخص عزيز فلا نستطيع أن نحضر جنازته أو أن نقدم واجب العزاء فيه، وصعب أن يتزوج عزيز فلا نتوجه لحضور زفافه، وصعب أن يمرض عزيز فلا نعوده في بيته أو في المستشفى؛ ولكن ماذا سنقول وهذا أمر الله وقضائه؟
ولكن كورونا لن تقهرنا، لأنها لن تستطيع التحكم في مشاعرنا، فمازلنا قادرين على أن نقدم العزاء أو التهنئة أو الاطمئنان على المريض حتى ولو كان باتصال موبايل أو هاتف، ومازلنا قادرين على التعبير عن مشاعرنا، نسمع لمن نحب، أو نتبادل معه المشاعر عبر الأثير..إنها المشاعر، الشيء الجميل الباقي الذي يقهر البعد، ويقربنا برغم المسافات.


















