بيضة الزوج
بقلم : د.صلاح شفيع
كن كتوماً تكن صديقاً للجميع ، كنت أتعجب من كثيرين يفضون لي بأسرارهم ، بينما أنا لا أخبرهم بشيء ، ثم لم ألبث أن فطنت أن كتماني لسري عنهم هو ما يدفعهم إلى الفضفضة لي اطمئناناً لي . ولما قال عمرو بن العاص في تشبيهه لما قال : الكلام كالدواء إن أقللت منه نفع ، وإن أكثرت منه قتل ، كنت أرى أنه مبالغاً لأن القليل لا يعني النفع دائماً ، فربما قتلت كلمة واحدة . وما الكلام في أصل اللغة إلا الجرح ، يقول المتنبى تمر بك الأبطال كلمى هزيمة .. أي جرحى .
وقد رأينا حكماء الكلام إذ ينصحون لا ينصحون بالكلام بل ينصحون بالصمت ، فالحبيب صلي الله عليه وسلم يقول : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت . والإمام علي يقول : يا بني العافية عشرة أجزاء: تسعة منها في الصمت إلا بذكر الله تعالى ، وواحد في ترك مجالسة السفهاء.، ويقول : إذا تم العقل نقص الكلام .
وقلما نجد أحداً ندم على السكوت ، لكن ما أكثر من ندموا على الكلام ، وكما قيل إنك إذا تكلمت بالكلمة ملكتك . والكلام كالضغط على الزناد ، لا يفوتك ، يمكنك أن تفعله في لحظة قادمة ، لكنك لو ضغطت لا يمكنك أن تمنع الطلقة . ولهذا قيل : أنا على رد ما لم أقل أقدر مني على رد ما قلت.
لقد قال صلى الله عليه وسلم : ليس القوي بالصرعة ، ولكن القوي من أمسك نفسه عند الغضب . فالقوي من ضبط نفسه ، ومن ضبط النفس : كتمان السر . فلا تبح بسرك لأحد ، ولا تبح سر غيرك.
وما تخشى أن يطلع عليه عدوك فلا تخبر به صديقك ، فلعل هذا الصديق ينقلب يوماً عدواً . والسر أمانة ، فهل لو وضع أحدهم عندك مالاً تتصرف فيه ، أما تنتظر صاحبه ليسترد أمانته . قال صلى الله عليه وسلم : إذا حدَّث الرَّجل الحديث ثُمَّ التفت فهي أمانةٌ, ويقصد بالالتفات أنه يتلفت يمينا وشمالاً خوفاً أن يكون قد سمعه آخر . فحركة الالتفات تساوي قوله : اكتم هذا عني .
قال بعض الحكماء: من أفشى سرَّه كثر عليه المتأمِّرون . وحُكي أنَّ رجلاً أسرَّ إلى صديقٍ له حديثاً ثُمَّ قال: أفهِمْت؟ قال: بل جهلت، قال: أحفِظت؟ قال: بل نسيت" ، قيل لأعرابي: كيف كتمانك للسِّرِّ؟ قال: ما قلبي له إلَّا قبر.
ولما رأي العباس أن عمر بن الخطاب يولي ابنه عبد الله مكانة ، قال العباس لابنه موصياً : يا بني إنَّ أمير المؤمنين يدنيك ، ويقدِّمك على الأشياخ ، فاحفظ عني ثلاثاً : لا تفشيَنَّ له سرًا ولا تغتابَنَّ عنده أحدًا ولا يطلعَنَّ منكَ على كذبة.
قال الوليد بن عتبة لأبيه: إنَّ أمير المؤمنين أسرَّ إليَّ حديثاً ولا أراه يطوي عنك ما يبسطه لغيرك" يعني: الشَّيء الذي أخبرني به أمير المؤمنين أظنُّك لو حضرت المجلس كان أخبرك به أيضاً، فأنت أبي أفلا أحدِّثك به؟ قال: لا يا بُني إنَّه من كتم سرَّه كان الخيار له، ومن أفشاه كان الخيار عليه، فلا تكونن مملوكاً بعد أن كانت مالكاً .
هذه أم سلمة ، سئلت عن سر رسول الله ، فقالت : كان سرُّه وعلانيته سواء ، ثم ندمت ، وقالت أفشيت سر رسول الله ، فأخبرته صلي الله عليه وسلم ، فقال : أحسنتِ ، أي أن ما قلت لا يضرني وينفع الناس .
وعند حصار النبي صلي الله عليه وسلم لبني قريظة ، طلبوا منه أن يرسل إليهم أبا لبابة لاستشارته فيما عرض عليهم النبي فقاموا إليه يبكون، قال : كيف ترى لنا ؟ أننزل على حكم محمد ؟ قال : نعم، وأشار بيده إلى حلقه ، أي الذبح ، علم من فوره أنه خان الله ورسوله، فمضى ولم يرجع إلى النبي صلي الله عليه وسلم حتى أتى مسجد المدينة فربط نفسه بسارية وحلف ألاَّ يحلَّه إلا رسول الله بيده، ولا يدخل أرض بني قريظة أبدًا، ثم تركه النبي حتى تاب الله عليه فحلَّه بيده .
عثر مزارع على إناء مملوء بالذهب والعملات الذهبية القديمة ، وأراد أن يخبر زوجته ، لكنه تذكر أن النساء لا يحفظن السر ، فقرر أن يختبر زوجته ، فوضع بيضة بجانب سريره ، وفي الصباح قال لامرأته :
ـ أملك سراً عجيباً لا يصدقه أحد ، لكن عديني أن تكتميه ، وإلا فضحت ..
ـ سركَ في بير !
ـ إني كلما دخلت للخلاء ، ألد بيضة .
ولم يلبث أن استدعاه السلطان :
ـ ما حكاية البيضة التي تلدها ؟؟
ـ لقد كنت أريد أن أختبر زوجتي .. لأطمئن أنها لا تفشي سري .. ويبدو أن المدينة كلها قد عرفت بالسر .. لكن لا بيضة .. ولا .. شيء ..
فى أساطير اليونان قصة الملك ميداس الذي عاقبته الآلهة بأن جعلت له أذنين كأذني الحمار ، واضطر الملك أن يغطي أذنيه بعمامة كبيرة لم يطلع عليها سوى الحلاق ، وشدد على الحلاق كتمان السر ، وإلا قتله ، لكن صدر الحلاق ضاق بسر الملك ، فذهب إلى الصحراء وحفر حفرةً وهمس فيها بالسر ، ثم ردم الحفرة ثانيةً ، ولم يستغرق الأمر زمناً طويلاً حتى نما قصبٌ سميكٌ فى الحقل ، فلما خرج من الأرض ، كانت الريح إذا حركته أصدر صوتاً هو ذاته السر الذي دفنه الحلاق ، لتعرف المملكة كلها بسر الملك . ويدفع الحلاق حياته ثمناً لأنه لم يستطع أن يدفن السر في صدره ، وشاركه مع حفرة في الأرض.
وهذا التهامي صاحب قصيدة دعد المشهورة ، يحكي لآخر حكايته ، جهزت قصيدة لأخطب بها دعد ، فيستنشده الرجل إياها ، ويحفظها ، ثم يقتل التهامي ، ويذهب بالقصيدة على أنه قائلها . ما كان أولاه لو استعان على قضاء حاجته بالكتمان ، لأن كل ذي نعمة محسود كما قال صلى الله عليه وسلم . والمثل يقول : داري على شمعتك .. وهذا أبو الأسود الدؤلي يهم بخطبة امرأة من بني عبد القيس ، فيفشي سره لرجل أزدي ، فيفشي الأزدي سره لابن عمها ، يحضر الدؤلي ، فيجدها قد خطبت لابن عمها ، ولا يملك إلا أن يقول شعراً :
وكنت إذا ضيّعت سرك لم تجد سواك له إلا أشت وأضيعا، وهل كنَّا يا أبا الأسود نعرف قيمة الكتمان ، لولا وقوع حكماء أمثالكم في خطيئة عدم الكتمان ؟
ثمة زوج كان يعرف أخريات على امرأته ، وكانت زوجته تضج من سيرته المعوجة ، حتى جاء يوم رجع منيباً إليها ، واستقامت سيرته معها ، لا يفتأ التودد إليها والاعتذار لها ، لكنه أصبح دونياً يردد ما يقلل من شأن نفسه ..
ابتسمت الزوجة في نفسها ، وفرحت بعملها الذي استعادته به كما القط المطيع ، فقد رمت في طريقه صديقة لها لتوقعه في حبه ، ثم تتعالى عليه ، قالت له صديقتها : ربما لا يقبل ، قالت لها : إنه يلهث وراء أي امرأة نثل .. ولم تكمل المثل .. كانت الخطة أن تدخل له الصديقة متوددة على النت ، وتخضع له بالقول بطريقة تطمعه فيها ، فإذا طلب منها أن يتقابلا ، فيجب أن يكون المكان لها ، فإذا أصبحا وحدهما واقترب منها ، نفرت منه ، وقالت له رائحتك لا تحتمل ، وحقرت منه ، أي نطقت بلسان زوجته الساخطة على خبث صنيعه ، وهكذا ترفعت الصديقة عليه ، وطردته بإهانة ، وهي تقول لك لا أدرى كيف تنظر امرأة إليك أيها المخدوع في نفسه ، وهكذا رجع الزوج إلى امرأته كاكلب المقيد في سلسلة ، كأنه يحمد الله أن امرأته لا تراه هكذا ، بل فقد ثقته في نفسه ، لا يفعل سوى التقرب لامرأته ، والاعتذار لها ، والتقليل من نفسه ، حتى تحولت هي إلى طبيب نفسي له تحاول أن ترد إليه ثقته بنفسه . ولم تدر الزوجة أن صديقتها فعلت نصف الخطة ، استدرجت الزوج ، لكنه لم تقم بإفقاده الثقة في نفسه ، بل أخبرته بالخطة ، امرأتك أرسلتني لتؤدبك وتتوب عن هذا الطريق ، وهكذا دامت العلاقة بينهما في هدوء ، واطمأنت الزوجة إلى أن زوجها رجع إلى الطريق المستقيم..
ولا أردي ماذا تفعل تلك المرأة التي استعادت زوجها بطريقة شيطانية لما تعلم أن الشيطان لعب معهما ، وأنها لم تلعب بزوجها ، بل لعب هو والصديقة والشيطان عليها ، ودوماً أنصح غيري ونفسي : لا تحارب الشيطان بوسائله ، وإلا انهزمت في انتصارك ، لأنك إن تنتصر بوسائله عليه لم تعد أنت ، بل اتحدت معه ، فأي هزيمة للشيطان إن كان يعطيك نصراً ثمنه أن يستلبك أنت .. وليت المرأة كتمت صديقتها مصيبتها ، فمن من كلام العرب : “ما كتمته عدوك لا تطلع عليه صديقك” . فكما قيل : لربما انقلب الصديق عدواً فكان أعلم بالمضرة .
لقد ذهبت امرأة تدعى لقاطة الحصى ؛ لأنها تنقل الأحاديث إلى زوجة جبير بن مطعم ، وقد ولاه عمربن الخطاب الكوفة واستكتمه الخبر، فوجدتها تجهّز جهازها للسفر ، فسألتها إلى أين السفر؟، فقالت لها : إنه يريد سفراً قد كتمنيه ، قالت لها : أو ترضى الحرة من زوجها أن يكتمها أمره ؟ فتركت ما كانت عليه متغضبةً ، وأقسمت ألا تعود إلى البيت إلا إذا أخبرها زوجها بوجهة السفر ، فاضطر أن يخبرها ، فجاءت لقاطة الحصى وسألتها الخبر فقصت عليها القصة ، وذاع الخبر . فولى عمر آخر مكانه وقال له : إنك عندى أمين ولكنك ضعيف ، وضاعت الولاية ؛ لأنه أفضى بسره إلى زوجته .
من روائع الأمثال الانجليزية الشهيرة ، المثّل القائل : He that keeps his secret gains his object ، ومعنى المثّل باللغة العربية : من كتم سره نال مراده . وهو يعادل بالعربية المثل الشعبي : داري على شمعتك تقيد .
ويقول رسول الله صلّ الله عليه وسلم : استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود ، وهذا الحديث يشير إلى أهمية كتمان العمل الذي نريد القيام به ، حتى يتحقق نتائجه وتظهر ثماره .
يقول الألماني نيتشة : “ينسى المرء غلطته عنما يسر بها إلى امرئ آخر ، ولكن عادةً الآخر لا ينساها !” .
أتظن من أفشيت سرك له أقوى من الغلام في قصة أصحاب الأخدود ، لقد قال له الراهب : لا تدلُّ عليّ . لكن الغلام تحت التعذيب ، دلَّ عليه ، فقتل الراهب .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: سرُّك أسيرك فإن تكلَّمت به صرت أسيره، وقال بعض الأدباء: من كتم سرَّه كان الخيار إليه، ومن أفشاه كان الخيار عليه . و قال بعض الحكماء: سرُّك من دمك فإذا تكلَّمت به فقد أرقته.


















