مذكرات مهاجر مجهول (8)
كتب/د.أشرف يعقوب
كنت امشي حوالي عشر دقائق حتى أصل الى محطة الاوتوبيس الذي كان يحملني من الضاحية التي كنت أقيم فيها الى اول محطة في مترو الإنفاق، الخط الثالث في ميلانو، فآخذ المترو لأصل الى وسط البلد ، و انزل في محطة الدوومو (القبة او بطريركية ميلانو) و امشي حوالي نصف ساعة حتى اصل لوحدة القسطرة في مستشفى البوليكلينيكو. كنت احب هذه التمشية الصباحية، رغم البرد القارص، و التي كنت امر فيها على مقاهي وسط البلد الفاخرة و العتيقة و التي تفوح منها رائحة القهوة الاسبريسو و الكابوتشينو و البرييوش (زي الكرواسان).
و في مرة رأيت فتاة جالسة في واحدة من هذه المقاهي و هي تتشاجر مع فتى مشاجرة عنيفة، و فجأةً خلعت كل ملابسها في ثواني ، و وقفت عارية تماما تردح للفتي و كل من يحاول الاقتراب منها حتى وصلت الشرطة و قبضوا عليها.
و في الاوتوبيس كنت تركب معي كل يوم من نفس المحطة فتاة ايطالية كانت تشبه الى حد صارخ خطيبتي المصرية السابقة و لنسميها "منى".
كانتا الاثنتان يشبهان نجاة الصغيرة المطربة. كنت انا و منى و لمدة عامان لا نكاد نفترق من أول النهار لآخره في الكلية.
كان تحجز لي مكان بجانبها في المدرجات لانها كانت تصل قبلي رغم انها كانت تسكن بعيدا عن الكلية و انا اسكن على بعد عشر دقائق مشي منها. و عند انتهاء محاضرات الصباح نذهب خارج الكلية لأكل ساندوتشات السجق و البسطرمة بالبيض و الجبنة الرومي و نشرب شويبس اليوستفاندي الذي لم اجد لحلاوة طعمه اي مثيل في العالم كله.
و بعد الظهر نجلس في حوش الكلية للمذاكرة معا، ثم أوصلها حتى محطة القطار لترجع لمنزلها.
و كان من المعتاد ان تتكون هذه الخطوبات الغير معلنة في السنوات الأخيرة من كلية الطب. و كان من الطبيعي ان يعاملنا الأصدقاء كما لو كنا حقيقة مخطوبين لبعض.
و اقسم بالله انني لم ألمسها، اكثر من وضع اليد في اليد، طيلة هذه السنين.
اقترب ميعاد التخرج و احسست ان قصتنا ليس لها اي مستقبل فليس لي اي قدرة علي حتى التفكير في زواج و عائلة. فقررت بعد انتهاء الامتحانات الا أقابلها مرة اخرى. و فعلا مر اكثر من شهر و لم ارآها ، و لم يكن في بيتنا و لا في بيتها تليفون للتحدث حتى تليفونياً.
كان شهر صعب و طويل، و عندما ذهبت للكلية لأرى النتيجة، وجدتها واقفة أمام أوراق النتائج و كأنها تنتظرني.
و كانت نظرتها لي اكثر من معبرة، نظرة تجمع العتاب مع الغضب ، و الحنين مع بريق من الفرحة.
احسست بأنني نذل ، لأني أخذت قرار الابتعاد وحدي ، دون ان أناقش الأمر معها.
و جلسنا في حوش الكلية و الذي كانت فيه شجرة واحدة وسط مربع من الحشيش الأخضر.
و ناقشنا الأمر بصراحة فقالت تقدم لوالدي و لنرى ماذا سيحدث. و فعلا ذهبت مع ابي و قرأنا الفاتحة مع والدها و جاء والديها لزيارة بيتنا.
ثم في زيارتي التالية لهم طلبت مني أمها على خجل متى سيكون حفل الخطوبة و ماذا سأقدم لها كشبكة. فقلت الحقيقة على حسب إمكانيات والدي في ذلك الوقت ، فردت هذا لا يكفي و انني يجب ان أوجد حل لهذا لانها لن تتحمل ان تخطب ابنتها بشبكة قليلة القيمة و ماذا سنقول للناس، و كيف سنقبل ان بنتنا، الدكتورة، تتم خطبتها بشبكة غير ذات قيمة.
قلت انني و منى نريد ان نصنع حياتنا معا فلماذا هذا التعنت في أشياء ليس لها فائدة الآن . أليس من الأفضل صرف الفلوس في شئ عملي.
و لكن هيهات، فسخت الخطبة ، و لم تحترم الفاتحة و لم يرحم الحب الصغير ، و لم تشفع الآمال و الأحلام و الوعود بالمستقبل السعيد بعد سنين، قليلة، من الصبر و الكفاح.
و عندما ذهبت، بعد حوالي العام، لأخذ تصريح مزاولة المهنة كطبيب من نقابة الأطباء ، رأيتها، و انا خارج، واقفة وحيدة على محطة الاتوبيسات و على وجها مسحة من الحزن الجميل.
و قال قلبي وقتها و فيه غصة من الألم ، روح لها، كلمها، شوف حصل ايه؟ هل تمت خطوبتها لآخر؟ هل غيرت أمها رأيها ؟
كان شوقي لها كبيرا جدا ، و لكني لم اتزحزح من على سلم دار الحكمة، لم تطاوع قدماي قلبي و إنما طاوعتا عقلي. و وقفت أرقبها حتى صعدت الاوتوبيس الذي اختفى بعد ذلك في زحام القاهرة ، و لم ارها و لم اعرف اي شئ عنها بعد ذلك.
ما علينا، كنت ارى هذه الفتاة الايطالية صباح كل يوم فيحتويني شعور بالأسى و الغربة.
وصلت اول مرة لوحدة القسطرة فوجدت الممرضات يجهزن الصالة و ألبرتو جالس على الكونسول يقرأ في كتاب. قلت في نفسي لقد كتب علي ان أصتبح كل يوم بوجه هذا اليهودي.
و سألني ألبرتو اذا كنت احب القهوة الايطالية الاسبريسو فقلت نعم . قال سأصنع القهوة الآن لنا. و فعلا وضع البن في الموكا، و هي الكنكة المميزة التي تصنع فيها القهوة الايطالية ، و قدم لي فنجان القهوة بعد ان وضع السكر حسب ما قلت له.
و كان لطيفا معي طوال النهار و الشهور التالية. و فهمت انه انسان مهذب و مثقف، و أصبحنا أصدقاء، و حكى لي أن جده و من بعده ابوه رفضا الهجرة لفلسطين لانهم يعتبرون أنفسهم إيطاليين منذ العصور الوسطى و لم يقبلوا أبداً بفكرة إقامة دولة يهودية، في فلسطين أو غيرها، و يعتبرون هذه الفكرة حماقة كبيرة.
و كان لألبرتو خطيبة ايطالية كاثوليكية و يعدان للزواج بالشكل المدني، أي في مبنى البلدية، كما تزوجت انا و سلفانا.
كانت المرة الاولى التي أقابل فيها يهودياً لا يحب فكرة وجود إسرائيل ، و قد قابلت بعض السواح الاسرائيلين في القاهرة و هم يزرون أصدقاء لهم من الإيطاليين العاملين معي في المستشفى الايطالي و لمست مدى ارتباطهم بأن إسرائيل حق لهم، و لا أنسى تلك الفتاة الاسرائيلية من أصول عراقية و التي سألتني "ما هو تعداد الشعب المصري؟" فقلت لها على ما اذكر في ذلك الوقت كان تعداد الشعب المصري حوالي ستين مليون مواطن، فرأيت في وجهها ملامح الحزن و الاضطراب و القلق، و كأن لسان حالها يقول " كل هذه الملايين من الناس أعداء لنا، فكيف سنحمي أنفسنا منهم، كيف سنقنعهم بشرعية وجودنا على ارض فلسطين؟"
اعتقد أن ضخامة الشعب المصري عدداً هي أشد أسباب مخاوف الإسرائيليين.


















