الخنساء..... شاعر العرب "الجزء الثاني"
هكذا كتمت الخنساء حزنها على معاوية ، ولم تطلق له العنان حتى لا تدفع صخر إلى الموت من أجل القصاص لأخيه ، لكن هيهات ، فقد حدث ما خافت منه ، فلم يرض أخوها صخر بقتل أحد سادات قبيلة القاتل ، وكيف يتوقف عن القتال وقاتل أخيه مازال يتنفس فوق ظهر الأرض ، فهلا أصبح تحتها ، وهكذا أقسم على مواصلة الثأر أمام قبر أخيه ..
ـ فوالله مابت منذ عقلت إلا باتراً أو مبتوراً، طالباً أو مطلوباً، حتى قتل معاوية. فما ذقت طعم نوم بعده".
وركب الشماء فرس أخيه ، وهاجم أعداءه فظفر بأخي القاتل ، وفي الوقت نفسه يقوم ابن الصمة صديق معاوية بقتل هاشم نفسه .وكأنه يقول للخنساء .. هأنا أثبت لك وفائي لأخيك .. ولم أصبر عن فراقه ، لهذا لم أترك قاتله يمشي على الأرض . ألم تندمي على عدم سماع نصيحته ؟؟
لكنها كانت في شغل عن أي شيء ، فقد أصيب صخر ، صخر أخوها غير الشقيق ، لكنه شقيق الروح ، بل الروح نفسه ، وهاهو يعاني من مرضه الآلام غير المحتملة ، مضى أكثر من عام ، وهو كأنه يعيش ما هو أسوأ من الموت ..
ذلك الموت الذي عرفته الخنساء في موت أبيها ،ثم زوجها الحبيب مرداس ، ثم أخيها معاوية ، وها هو صخر الحبيب يعاني ما هو أشد من الموت ، يسألون امرأته عن حاله فتقول :
ـ بشر حال، لا حي فيرجى، ولا ميت فينعى، ولقد لقينا منها الأمرين.
لكن الخنساء تقول :
ـ لا نزال بخير ما رأينا سواده فينا ..
فلما زادت المعاناة ، عرضوا عليه أن ينزعوا قطعة قماش كانت في جوف الجرح ..
قالوا إنها تمنع الشفاء ، لكن ربما تكون خطراً على حياته ، لكنه قال لهم : افعلوا ولو فيها موتي ، فأنا أعيش الآن ما هو أشد من الموت . فاحموا له شفرة ، وقطعوها .
وجاءت الخنساء تسأل ، وقد وضعت يدها على قلبها : كيف كان صبره ؟؟ فـأجابها يطمئنها ، وهو يعلم أنه يخدعها ، فقد يئس من نفسه :
ـ إنني صبور على ريب الزمان صليب !
مات صخر ، ولو قدر ألا يفعل ليحمي الخنساء من الحزن لفعل ، كانت الخنساء جبلاً ، تحملت ما لا يتحمله أحد من زوجها ، واستمرت معه كأنها في مباراة لإثبات مدى تحملها ، وكتمت حزنها على أبيها ، وعلى أخيها ، برغم أن الحزن يعصف بها ، تريد أن تبكي كما النساء ، ولا تفعل ، تريد أن تقول الشعر ولا تفعل ..
وهاهو صخر يموت أمام عينيها ، فأي جمود فيها يستمر أمام طوفان الحزن الذي فجره موت صخر ، لقد كانت تفقد العزيز تلو الآخر ، فتجد في صخر عوضاً عن الدنيا وما فيها ، فماذا بعد فقده ؟ ربما لو سبقهم ما وجدت منهم من يعوضها عنه ، فماذا وهو يرحل ولا سند ..
ظلت متماسكة بعد موت أبيها لأنه كان هناك مرداس ، وأخواها ، وتماسكت بعد موت درداس لأنه كان هناك أخواها ، ولما مات معاوية ، كان هناك صخر .. الآن يرحل صخر هو الآخر .. يرحل من كان يغلق فوهة الدمع عندها .. اندفق الدمع شديداً ..
كأنه ليس واحداً مات ، ومات قبله أعزاء ، وذاقت مرارة فقدهم ، بل كأن كل البشر تجمعوا في صخر ، ثم لحقته المنية ، فمات كل البشر بموته ، فكيف لا تقيم على قبرهم ما بقى من زمن ، ومن ينهاها ؟؟ وأي قوة أقوى من حزنها على صخر لتمنعها وتوقفها عن الحزن عليه .
أبنت صخر تلكم الباكية **لا باكي الليلة إلا هيه
وتقول في رائيتها الرائعة :
قَذىً بِعَينِكِ أَم بِالعَينِ عُوّارُ ** أَم ذَرَفَت إِذ خَلَت مِن أَهلِها الدارُ
كَأَنَّ عَيني لِذِكراهُ إِذا خَطَرَت ** فَيضٌ يَسيلُ عَلى الخَدَّينِ مِدرارُ
تَبكي لِصَخرٍ هِيَ العَبرى وَقَد وَلَهَت ** وَدونَهُ مِن جَديدِ التُربِ أَستارُ
تَبكي خُناسٌ فَما تَنفَكُّ ما عَمَرَت ** لَها عَلَيهِ رَنينٌ وَهيَ مِفتارُ
تَبكي خُناسٌ عَلى صَخرٍ وَحُقَّ لَها ** إِذ رابَها الدَهرُ إِنَّ الدَهرَ ضَرّارُ
لا بُدَّ مِن ميتَةٍ في صَرفِها عِبَرٌ ** وَالدَهرُ في صَرفِهِ حَولٌ وَأَطوارُ
قَد كانَ فيكُم أَبو عَمروٍ يَسودُكُمُ ** نِعمَ المُعَمَّمُ لِلداعينَ نَصّارُ
صُلبُ النَحيزَةِ وَهّابٌ إِذا مَنَعوا ** وَفي الحُروبِ جَريءُ الصَدرِ مِهصارُ
يا صَخرُ وَرّادَ ماءٍ قَد تَناذَرَهُ ** أَهلُ المَوارِدِ ما في وِردِهِ عارُ
مَشى السَبَنتى إِلى هَيجاءَ مُعضِلَةٍ ** لَهُ سِلاحانِ أَنيابٌ وَأَظفارُ
وَما عَجولٌ عَلى بَوٍّ تُطيفُ بِهِ ** لَها حَنينانِ إِعلانٌ وَإِسرارُ
تَرتَعُ ما رَتَعَت حَتّى إِذا اِدَّكَرَت ** فَإِنَّما هِيَ إِقبالٌ وَإِدبارُ
لا تَسمَنُ الدَهرَ في أَرضٍ وَإِن رَتَعَت ** فَإِنَّما هِيَ تَحنانٌ وَتَسجارُ
يَوماً بِأَوجَدَ مِنّي يَومَ فارَقَني ** صَخرٌ وَلِلدَهرِ إِحلاءٌ وَإِمرارُ
وَإِنَّ صَخراً لَوالِينا وَسَيِّدُنا ** وَإِنَّ صَخراً إِذا نَشتو لَنَحّارُ
وَإِنَّ صَخراً لَمِقدامٌ إِذا رَكِبوا ** وَإِنَّ صَخراً إِذا جاعوا لَعَقّارُ
وَإِنَّ صَخراً لَتَأتَمَّ الهُداةُ بِهِ ** كَأَنَّهُ عَلَمٌ في رَأسِهِ نارُ
جَلدٌ جَميلُ المُحَيّا كامِلٌ وَرِعٌ ** وَلِلحُروبِ غَداةَ الرَوعِ مِسعارُ
حَمّالُ أَلوِيَةٍ هَبّاطُ أَودِيَةٍ ** شَهّادُ أَندِيَةٍ لِلجَيشِ جَرّارُ
نَحّارُ راغِيَةٍ مِلجاءُ طاغِيَةٍ ** فَكّاكُ عانِيَةٍ لِلعَظمِ جَبّارُ
فَقُلتُ لَمّا رَأَيتُ الدَهرَ لَيسَ لَهُ ** مُعاتِبٌ وَحدَهُ يُسدي وَنَيّارُ
لَقَد نَعى اِبنُ نَهيكٍ لي أَخا ثِقَةٍ ** كانَت تُرَجَّمُ عَنهُ قَبلُ أَخبارُ
فَبِتُّ ساهِرَةً لِلنَجمِ أَرقُبُهُ ** حَتّى أَتى دونَ غَورِ النَجمِ أَستارُ
لَم تَرَهُ جارَةٌ يَمشي بِساحَتِها ** لِريبَةٍ حينَ يُخلي بَيتَهُ الجارُ
وَلا تَراهُ وَما في البَيتِ يَأكُلُهُ ** لَكِنَّهُ بارِزٌ بِالصَحنِ مِهمارُ
وَمُطعِمُ القَومِ شَحماً عِندَ مَسغَبِهِم ** وَفي الجُدوبِ كَريمُ الجَدِّ ميسارُ
قَد كانَ خالِصَتي مِن كُلِّ ذي نَسَبٍ ** فَقَد أُصيبَ فَما لِلعَيشِ أَوطارُ
مِثلَ الرُدَينِيِّ لَم تَنفَذ شَبيبَتُهُ ** كَأَنَّهُ تَحتَ طَيِّ البُردِ أُسوارُ
جَهمُ المُحَيّا تُضيءُ اللَيلَ صورَتُهُ ** آباؤُهُ مِن طِوالِ السَمكِ أَحرارُ
مُوَرَّثُ المَجدِ مَيمونٌ نَقيبَتُهُ ** ضَخمُ الدَسيعَةِ في العَزّاءِ مِغوارُ
فَرعٌ لِفَرعٍ كَريمٍ غَيرِ مُؤتَشَبٍ ** جَلدُ المَريرَةِ عِندَ الجَمعِ فَخّارُ
في جَوفِ لَحدٍ مُقيمٌ قَد تَضَمَّنَهُ ** في رَمسِهِ مُقمَطِرّاتٌ وَأَحجارُ
طَلقُ اليَدَينِ لِفِعلِ الخَيرِ ذو فَجرٍ ** ضَخمُ الدَسيعَةِ بِالخَيراتِ أَمّارُ
لَيَبكِهِ مُقتِرٌ أَفنى حَريبَتَهُ ** دَهرٌ وَحالَفَهُ بُؤسٌ وَإِقتارُ
وَرِفقَةٌ حارَ حاديهِم بِمُهلِكَةٍ ** كَأَنَّ ظُلمَتَها في الطِخيَةِ القارُ
أَلا يَمنَعُ القَومَ إِن سالوهُ خُلعَتَهُ ** وَلا يُجاوِزُهُ بِاللَيلِ مُرّارُ
وتوالت قصائدها الدامعة .. فتقول :
يا عينِ جودي بالدّموعِ الغِزَارْ ** وابكي على اروعَ حامِي الذمارْ
فرعٍ منَ القومِ الجدى ** أنْماهُ منهُمْ كلُّ محضِ النِّجارْ
أقولُ لمّا جاءَني هُلْكُهُ ** وصرَّحَ النَّاسُ بنجوى السّرارْ
أُخَيّ! إمّا تَكُ وَدّعْتَنَا ** فَرْعٍ منَ القَوْمِ كريمِ الجَدا
فرُبّ عُرْفٍ كنْتَ أسْدَيتَهُ ** إلى عيالٍ ويتامى صغارْ
وربَّ نعمى منكَ انعمتها ** على عُناة ٍ غُلَّقٍ في الإسارْ
أهْلي فِداءٌ للّذي غُودِرَتْ ** أعْظُمُهُ تَلْمَعُ بَينَ الخَبارْ
صَريعِ أرْماحٍ ومَشْحوذَة ** كالبرقِ يلمعنَ خلالَ الديارْ
مَنْ كانَ يَوْماً باكياً سَيّداً ** فليبكهِ بالعبراتِ الحرارْ
ولتبكهِ الخيلُ اذا غودرتْ ** بساحة ِ الموتِ غداة َالعثارْ
وليبكهِ كلُّ أخي كربة ** ضاقتْ عليهِ ساحة ُ المستجارْ
رَبيعُ هُلاّكٍ ومأوى نَدًى ** حينَ يخافُ النَّاسُ قحطَ القطارْ
أسْقَى بِلاداً ضُمّنَتْ قَبْرَهُ ** صَوْبُ مَرابيعِ الغُيوثِ السَّوارْ
وما سؤالي ذاكَ الاَّ لكي ** يسقاهُ هامٍ بالرَّوي في القفارْ
قُلْ للّذي أضْحَى بهِ شامِتاً **إنّكَ والموْتَ، مَعاً، في شِعارْ
وتقول:
بَكَت عَيني وَعاوَدَها قَذاها ** بِعُوّارٍ فَما تَقضي كَراها
على صَخرٍ وَأَيُّ فَتىً كَصَخرٍ ** إِذا ما النابُ لَم تَرأَم طِلاها
فَتى الفِتيانِ ما بَلَغوا مَداهُ ** وَلا يَكدى إِذا بَلَغَت كُداها
حَلَفتُ بِرَبِّ صُهبٍ مُعمِلاتٍ ** إِلى البَيتِ المُحَرَّمِ مُنتَهاها
لَئِن جَزِعَت بَنو عَمروٍ عَلَيهِ ** لَقَد رُزِئَت بَنو عَمروٍ فَتاها
لَهُ كَفٌّ يُشَدُّ بِها وَكَفٌّ ** تَحَلَّبُ ما يَجِفُّ ثَرى نَداها
تَرى الشُمَّ الجَحاجِحَ مِن سُلَيمٍ ** يَبُلُّ نَدى مَدامِعِها لِحاها
عَلى رَجُلٍ كَريمِ الخيمِ أَضحى ** بِبَطنِ حَفيرَةٍ صَخِبٍ صَداها
لِيَبكِ الخَيرَ صَخراً مِن مَعَدٍّ ** ذَوُو أَحلامِها وَذَوُو نُهاها
وتقول :
يا عَينِ جودي بدَمعٍ منكِ مَسكُوبِ ** كلؤلؤٍ جالَ في الأسْماطِ مَثقوبِ
انّي تذكَّرتهُ وَالَّليلُ معتكرٌ ** ففِي فؤاديَ صدعٌ غيرُ مشعوبِ
نِعْمَ الفتى كانَ للأضْيافِ إذْ نَزَلوا ** وسائِلٍ حَلّ بَعدَ النّوْمِ مَحْرُوبِ
كمْ منْ منادٍ دعا وَ الَّليلُ مكتنعٌ ** نفَّستَ عنهُ حبالَ الموتِ مكروبِ
وَ منْ اسيرٍ بلاَ شكرٍ جزاكَ بهِ ** بِساعِدَيْهِ كُلُومٌ غَيرُ تَجليبِ
فَكَكْتَهُ، ومَقالٍ قُلْتَهُ حَسَنٍ ** بعدَ المَقالَة ِ لمْ يُؤبَنْ بتَكْذيبِ
وتقول :
يا عَينِ جودي بدَمعٍ منكِ مُهْراقِ ** اذا هدى النَّاسُ أو همُّوا باطراقِ
انّي تذكّرني صخراً اذا سجعتْ ** على الغُصُونِ هَتُوفٌ ذاتُ أطْواقِ
وكلُّ عبرى تبيتُ اللَّيلَ ساهرة ** تبكي بكاءَ حزينِ القلبِ مشتاقِ
لا تَكْذِبَنّ فإنّ المَوْتَ مُخْتَرِمٌ ** كلَّ البريَّة ِ غيرَ الواحدِ الباقي
انتَ الفتى الماجدُ الحامي حقيقتهُ ** تعطي الجزيلَ بوجهٍ منكَ مشراقِ
والعودَ تعطي معاً والنَّابَ مكتنفاً ** وكلَّ طرفٍ إلى الغاياتِ سبَّاقِ
انّي سابكي أبا حسَّانَ نادبة **ما زلتُ في كلِّ امساءٍ واشراق ِ
وهاهي تذهب كما ذهب أبوها إلى الموسم ، لكن ليس ليمسك كل ولد من ولديه بيد ، ويقول للناس ..
ـ هذان خيرا مضر ..
هذه المرة تأتي وقد ضاع القائل ، وضاع الخيران ، ضاع خيرا مضر ، لذلك هي جاءت لمن شهدوا لأبيها أن ولديه هما خيرا مضر ، ليشهدوا أن مصيبتها هي أشد مصيبة شهدها العرب .
وكما أقروا لأبيها بحقه في الشرف ، أقروا أنها أعظم العرب مصيبة . وسألوها ..
ـ صفي أخويك معاوية وصخر .. !
ـ إن صخرًا كان الزمان الأغبر، وذعاف الخميس الأحمر. وكان معاوية القائل الفاعل.
ـ فأي منهما كان أسنى وأفخر؟
ـ صخر حر الشتاء، ومعاوية برد الهواء.
ـ فأيهما أوجع وأفجع؟
ـ أما صخر فجمر الكبد، وأما معاوية فسقام الجسد.
لم يكن موت صخر هو انهيار السد الذي يحجز حزنها فحسب ، بل انطلق مع حزنها شعرها ، فإن كانت قد خسرت في هذه الحياة حياتها ، فقد كسبت الدنيا والشعر شاعرة قلما يجود الزمان بمثلها .. نعم كان يختفي وراء قوتها أعظم امرأة تقول الشعر في عرب الشعر .. وما كان ليسمع العرب شعرها لولا أن الحزن كان أقوى من قوتها واحتمالها .
آن للصامتة ليس أن تتكلم ، بل أن لا تتوقف عن الكلام ، آن للقوية المتماسكة ليس أن تضعف ، بل أن تنوح ، ولا لأحد عليها من سلطان يوقف طوفان حزنها ..
وماذا بعد الأب ، والزوج ، والأخ ، ثم أخ ليس كأي أخ .. هو الحزن وليس غير الحزن حتى تلحق بهم .
وظلت كل عام تذهب إلى الموسم في عكاظ تعاظم العرب بمصيبتها ، فلما حدثت وقعة بدر شعرت هند بنت عتبة بأنها أعظم العرب مصيبة بعد أن فقدت أباها عتبة وعمها شيبة ابني ربيعة ، وأخاها الوليد بن عتبة في يوم واحد .. وذهبت هند إلى عكاظ ، لتقول للخنساء : بل أنا أعظم العرب مصيبة ..وأنشدت :
أبكي عميد الأبطحين كليهما * ومانعها من كل باغ يريدهـا
د.صلاح شفيع
أبي عتبة الخيرات ويحك فاعلمي * وشيبة والحامي الذمار وليدها
أولئك آل المجد من آل غالب * وفي العز منها حين ينمي عديدها
فقالت لها الخنساء .. أو هم سواء عندك .. وأنشدت :
أبكي أبي عمرًا بعين غزيـرة * قليل إذا نام الخلـي هجودهـا
وصنوي لا أنسى معاوية الذي * له من سراة الحرتيـن وفـودهـا
وصخرًا ومن ذا مثل صخر إذا * غدا بساحته الأبطال قــزم يقودها
فذلك يا هند الرزية فاعلمي * ونيران حرب حين شب وقـودهـا
وكأن الخنساء تتعجب أن يحزن أحد على هالك ، بعد موت صخر:
حلفت بالبيت وزواره * إذ يعملون العيس نحو الجمار
لا أجزع الدهر على هالك * بعدك ما جنت هوادي العشار
هو الليل ، وهل يأتي نهار إلا بشمس؟ والشمس كانت صخراً ، وصخر في القبر .. ما من أحد يراها إلا ويقول : إنها ستظل حزينة أبداً ، وأنها ستدخل بهذا الحزن إلى قبرها .. ولعلها لن تحتاج لأحد يحزن عليها .
لم يعد من صديق لها سوى عينيها .. التي لم تخذلها ، واستمرت تجود لها بالدمع ..
ولكن ها هو الإسلام كالنور بدون شمس ، يدخل إلى كل مكان في الجزيرة العربية ، ويدخل إلى بني سليم ، وها هم يحضرون إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم وتحضر الخنساء معهم .
وكأن الليل توارى ، ربما للأبد ، وكأن حوت الحزن الذي ابتلعها ، قد قذف بها .. وكأنها لما رآت وجهه كانت يونس قد خرج من ظلمات بطن الحوت .
هو الإسلام إذن جاءها نجدة من السماء ليطوي حزنها إلى الأبد ، وها هو رسول الإسلام يستنشدها شعرها :
هيه يا خناس!
وهاهي ترجع إلى ديارها ، وقد أبدلها الله حالاً غير حالها ، أسلمت وأسلم أولادها ، وسعت لابنها الأول أبي شجرة ليدخل الإسلام ترجو أن يغيَّره الإسلام كما غيَّرها .
ويصلها أن ابن حاتم الطائي يذهب إلى النبي فيقول :
ـ يا رسول الله: إن فينا أشعر الناس امرؤ القيس بن حجر، وأسخى الناس أبي حاتم بن سعد ، وأفرس الناس عمرو بن معد يكرب ..
فقال عليه الصلاة والسلام:
ـ ليس كما قلت يا عدي! أما أشعر الناس فالخنساء بنت عمرو، وأما أسخى الناس فمحمد، وأما أفرس الناس لعلي بن أبي طالب .
رباه لقد شهد لها من قبل في الشعر ، ألم يعجب النابغة الذبياني بشعرها في عكاظ ، وقال لها أنت أشعر من كل امرأة ، ولولا أن الأعشى أبا بصير أنشدني قبلك لقلت إنك أشعر الجن والإنس . لكن تلك شهادة من رسول الله ، كأن الأرض والسماء تشهد لشعرها ..
ولا يلبث أن يموت النبي صلي الله عليه وسلم، لأنها دخلت الإسلام قبل وفاته بسنتين ، فإذ بها تسمع بالردة ، وأن أبا شجرة ابنها قد ارتد مع من ارتد ، وهزت رأسها كأنها تقول : ألا تنصلح يا ابن أبيك .. ؟؟ حتى لما قالوا لها : لقد رجع إلى الإسلام مع من رجع ، كانت بينها وبين نفسها تعرف أنه ما رجع إلا لانتصار الإسلام .
لقد دخلت الإسلام وهي في السابعة والخمسين ، وكان قد مضى على موت صخر الحبيب خمس عشرة سنة لم تتوقف فيها عن البكاء عليه . وها هي قد أصبحت في الخامسة والستين ، وقد مضى على إسلامها ثماني سنوات ..
وعمر بن الخطاب قد انتدب الناس لحرب الفرس في القادسية تحت قيادة سعد بن أبي قاص ، فخرجت مع أولادها الأربعة من مرداس .. العباس زيد، ومعاوية، وعمرة ,
وليلة المعركة ، تحرض أبناءها على القتال ، والموت في سبيل النصر قالت لهم :
ـ يا بني إنكم أسلمتم وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله غيره إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم، ولا هجنت حسبكم ولا غيرت نسبكم. وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين. واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية يقول الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . فإذا أصبحتم غدًا إن شاء الله سالمين، فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين. وإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها واضطرمت لظى على سياقها وجللت نارًا على أوراقها، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها عند احتدام خميسها تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة.
فلما بلغ إليها خبر وفاة استشهادهم جميعاً، لم تجزع ولم تبك، ولم تحزن، قالت قولتها المشهورة:
ـ الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته.
ما هذا ؟؟ ما الذي غيَّر تلك المرأة التي ملأت الدنيا عواء وعويلاً ، وندباً من أجل أبيها وأخويها ، ولم تهدأ دموعها عليهم منذ مات صخر من ثلاث وعشرين سنة كيف تفقد أولادها الأربعة كلهم في يوم واحد فتكون بهذا الثبات ..
إنه الإسلام .. الذي علَّمها أن هناك بعثاً وحياة بعد الموت ، وأن هؤلاء الذين ماتوا في سبيل الله ليسوا أمواتاً ، بل أحياء عند ربهم يرزقون ، وأنها غداً يمكنها أن تقابلهم إذا استطاعت أن تدخل إليهم الجنة التي أصبحوا فيها ، وطريقها في الجنة كما تعلمت أن تصبر عند المصيبة ، وأن تحمد الله ، وقد فعلت .
فليس بينها وبين أن تلقاهم إلا الموت ، وهو آت ، أما من ماتوا قبلاً فقد كانت قبل الإسلام تعلم أنه لا حياة إلا تلك الحياة ، فكيف تطيق فراقهم ؟؟ ولا أمل في لقاء ؟!
لم تبك أولادها ، لكنها استمرت تقول الشعر في خيري مضر صخر ومعاوية ، حتى شكا بنو عمها إلى عمر بن الخطاب ..
ـ يا أمير المؤمنين ، قرحت الخنساء مآقيها من البكاء في الجاهلية والإسلام ، فلو نهيتها ..
قال لها عمر :
ـ اتقي الله وأيقني بالموت .
ـ أنا أبكي أبي وخيري مضر: صخرًا ومعاوية، وإني لموقنة بالموت.
ـ أتبكين عليهم وقد صاروا جمرة في النار؟
ـ ذاك أشد لبكائي عليهم؛
وكأن عمر فهم لماذا تبكي عليهم دون بكائها على أبنائها ، فالسر في عدم بكائها على أبنائها هي إيمانها بالبعث ، وأنهم كأنهم في سفر لن يلثوا أن يقدموا عليها ، أو تقدم عليهم .. فقال لهم :
ـ خلوا عجوزكم لا أبا لكم، فكل امرئ يبكي شجوه ونام الخلي عن بكاء الشجي.
إنها المرأة الاستثناء ، لهذا لما قال بشار : لم تكن امرأة تقول الشعر إلا يظهر فيه ضعف، فقيل له: وهل الخنساء كذلك؟ فقال: تلك التي غلبت الرجال. ولما سئل جرير عن أشعر الناس قال :
ـ أنا ، لولا الخنساء !فضلتني بقولها :
إن الزمان وما يفنى له عجب * أبقى لنا ذنبًا واستؤصل الرأس
لقد أتعبت الخنساء كل من كتب رثاء بعدها ، وما هم إلا كلٌّ عليها ، قد اغترفوا من نهر حزنها الصافي ، إنها المرأة التي جعلت قمم الجبال تتدحرج بداعي وفاة اخيها، والنجوم تهوي، والأرض تهتز، والشمس تظلم .


















