تلك التي هي! بهيسة بنت أوس
لا سيد إلا أوس بن حارثة .. هكذا كانت العرب تقول ، مثلما كانت تقول قبلاً : لا أحد أعز من كليب .. هو سيد العرب لا منازع ، وقد نال حلة النعمان ، وبعد هجاء بشـر له ولأمه ، انقلب الشـر إلى نعمة ، فبعد أن ظفر بالشاعر وأشارت أمه سعدى أن يعفو عنه ، تفرغ بشـر إلى مدح أوس ، وأمه ، حتى كادت الناس تنسى اسم أوس بن حارثة ،وأصبحت تعرفه بابن سعدى .
لأجل ذلك تقدم إليه الحارث بن عوف يطلب مصاهرته ..
ـ أهلا يا حارث ، حللت أهلاً . يا سيد العرب ـ
ـ إن لقبنى سيد العرب بسيد العرب ، فتلك بشارة مطمئنة ..
ـ أية بشارة ..
ـ لقد جئتك خاطباً .. إحدى بناتك ، وقد قالوا لي أنك رافضي ..
ـ وقد صدقوك فيما قالوا .. لم تجدنى يا حارث.
وانصرف أوس إلى بيته مغضباً ، لم يستنزل ضيفه كعادته ، لتسأله زوجته متعجبة :
ـ من هذا الرجل الذى أغضبك ؟
ـ هذا سيد العرب الحارث بن عوف ..
ـ فلم لم تستنزله ضيفاً .. ما تلك بعادتك ؟؟
ـ لقد استحمق ..
ـ كيف ؟
ـ جاءني خاطباً ..
ـ أو لا تريد أن تزوج بناتك ؟
ـ بلى يا امرأة .. !
ـ فإذا لم تزوج سيد العرب ، فمن ؟!
ـ هذا ما حدث .. لقد فاجئنى .. فصددته .. لو أدرتِ هذا الحوار معي قبلاً لتهيأت لطلبه ، وما نفرتُ منه .
ـ تدارك إذن ما كان منك ؟ وتذكّر أنك عندما رجعت عن عزمك في قتل بشـر ، اكتشفت أنك لم تفعل إلا ما هو صحيح ، بل الذى لا صحيح غيره .
ـ وكيف أتدارك هذه ؟ تراجعي عن قتل بشر كان مكرمة ، عفو عن مقدرة ، أما هذا فأمر معيب : أفصده ثم أجرى وراءه ..؟
ـ أو لم يمض إبراهيم الخليل جدنا وراء ضيفه عندما عاتبه فيه ربه ؟ أكان عيباً مضيه وراء الضيف ليسترجعه ويستدرك ضيافته .. أم ظللنا نراها مكرمة .. الحق بضيفك حتى لو لم يخطب ابنتك ..
ـ غلبتنى يا امرأة ..
ـ لقد نهلت من إنائك يا سيد العرب .. فما أنا ـ إذ غلبتك ـ إلا أنتَ يغلب أنتَ ..
ـ ما أروع ذلك ، فما أنا إذ أطيع امرأتي إلا أنا أطيع أنا .. وهل يعيب سيد العرب لو وقف أمام المرآة يحاور نفسه .. ؟؟ لكنى لن استدرك ماقلته بشأن الخطبة .. سأفعل ما فعله جدي عندما ترك ضيفه ، فاستدرك ليتم الضيافة ..
ـ الخطبة شأن آخر ، لو لم يكرر الطلب ، فليس لدينا له بنات ، لكنى أحدس أن رجلاً يقطع البلاد ليخطب إليك ، لو وجد في طريقه أحداً الآن يتوسط له عندك ليعاودك طالباً لفعل ..
ـ إنى ذاهب وراء ضيف فوّته على نفسي .. أما خطبة ابنتى فهذا أمر يجرى هو وراءه ..
ـ وهذا ما فعل جدنا الخليل ، جرى وراء ضيف فوّته على نفسه ، أما الإيمان بالله فهذا أمر يجرى وراءه الضيف .
هو لم يبعد ، فمازال في الحي .. الحق به ، وقل له : لقيتني مغضباً بأمر لم تقدم فيه قولاً، فلم يكن عندي فيه من الجواب إلا ما سمعت، عد ولك عندي ما أحببت، فإنه سيفعل.. فما أراه الآن إلا مغموماً ، لا يكاد يكلم رفيقه .
وكان ما قالته ..
ـ لقد فوت على نفسي ما لا يليق بي من ضيافتك ، فعد ضيفاً ..
ـ بل خاطباً لا يرد ..
ـ لك ما تحب ..
ـ نِعم بنت السيدين ..
ـ نِعم حفيداً
يرجع الحارث معه مسـروراً .
ويستأذن أوس منه ويدخل إلى بناته .. فيطلب الكبرى وينفرد بها :
ـ يا بنية، هذا الحارث بن عوف سيد من سادات العرب، قد جاءني خاطباً وقد أردت أن أزوّجك منه، فما تقولين؟
ـ أبت ، لا تفعل ! فإني امرأة في وجهي ردة، وفي خلقي بعض العيب ولست بابنة عمه فيرعى رحمي، وليس بجارك في البلد فيستحي منك، ولا آمن أن يرى مني ما يكره فيطلقني.
ـ قومي بارك الله فيك .
ونادى ابنته الوسطى ، وقال لها ما قال لأختها ، فقالت :
ـ إني خرقاء وليست بيدي صنعة ولا آمن أن يري مني ما يكرهه فيطلقني ، وليس بإبن عمي فيرعي حقي ولا جارك فيستحي منك .
ـ قومي بارك الله فيك .
ودعا الصغرى .. وعرض عليها الأمر .. فقالت :
ـ أنت وذاك .
ـ لكنى قد عرضتُ ذلك على أختيك فأبت كل منهما ، فتذكري ما لم يغب عنهما : تذكرى أنه ليس ابن عمك فيرعى حقك ، وليس بجارى في البلد فيستحي مني ..
ـ لكنى والله الجميلة وجهاً ، الصنيعة يداً ، الرفيعة خلقاً ، الحسيبة أباً ، فإن طلّقنى فلا أخلف الله عليه بخير .
ـ بارك الله عليك ..
وخرج إلى الحارث ، وقال له قد زوجتك ابنتي بهيسة ..
ـ قبلت ..
ـ قد أمرتُ أمها أن تهيأها للعرس ، وقد أمرت أن يضربوا لك بيتاً تنزل فيه ، وتُزَف إليك عروسُك .
ـ والله لا أكون إلا عند حسن ظنك بي .. فظن بي ما تشاء تجدنى كما تنتظر .. فلن ترى ابنتك منى أبداً ما تكره ..
ـ يابنى ـ لو جاز لي أن أقولها لك ـ إن من يهن زوجه فقد أهان نفسه ،
فالكريم لا نقلق على بناتنا معه .. لأنه ينزلها منه منزلة نفسه من الناس .. اذهب فإن عروسك قد أدخلت بيتكما ..
لا يلبث أن أدخلت بهيسة عليه ، لم يلبث أن خرج ، فقابله صديقه خارجة بن سنان ؟
ـ أفرغت من شأنك ؟
ـ لا ، والله .لما دخلت عليها ، قالت ، مه ، أعند أبي وأخواتي ؟ هذا والله ما لا يكون !
ـ فما أصبرك عليها ؟
ـ لقد رأيت همة وعقلاً ، وأرجو أن تكون منجبة رجالاً لا يفوقهم أحد من العرب . فتهيأ فسنرتحل في الصباح الباكر ..
وارتحلوا ، وفي الطريق توقفوا للاستراحة ، ودخل الحارث على زوجته:
ـ أكما يفعل بالأمة الجليبة أوالسبية الأخيذة، لا والله! حتى تنحرالجزر وتذبح الغنم، وتدعو العرب، وتعمل ما يعمل لمثلي .
ويصل الحارث إلى دياره ، ويذبح الإبل والغنم ، ويدعو العرب كما طلبتْ ، ثم يدخل عليها ..
ـ الآن لا حجة لك ..
ـ والله لقد ذكرتَ لي من الشـرف ما لا أراه فيك؟
ـ وكيف؟
ـ أتفرغُ للنساء، والعربُ تقتلُ بعضها بعضاً !
ـ فماذا يكون ؟
ـ اخرج إلى هؤلاء القوم فاصلح بينهم . ثم ارجع إلى أهلك فانهم لن يفوتوك ما تريد.
ـ تقصدين عبساً وذبيان ، إنهم يتقاتلون من أربعين سنة ، قبل أن أولد ..
ـ وادخر الله هذا المجد لك ، فلا تقعد عن مجد عجزت عنه العرب وانتظرك ..
يخرج الحارث يطلب صديقه خارجة بن سنان :
ـ أخرج بنا يا خارجة، لنوقف تلك الحرب ..
ـ وكيف نوقفها ..
ـ نعرض عليهم الصلح ونحسب القتلى ، عن كل رجل دية .
ـ هذا عمل لم يخطر على بالنا من قبل ..
ـ هذا أوانه .. لقد رامت بنت أوس مهراً لها يخلدني ، سأمهرها سلاماً بين العرب .. أقادمٌ معي أم أذهب وحدي ؟
ـ ومن يتأخر عن المجد يا زوجها !
يرجع السيدان من عند القوم بعد أن تحملا ثلاثة آلاف بعير ديات القتل وتوقفت الحرب ، وعاد الحارث وصاحبه يحملان أطيب الذكر بين العرب . ليمدحهما زهير بمعلقته الشهيرة :
فَأَقْسَمْتُ بِالبيْتِ الذي طَافَ حَوْلَهُ * رِجَالٌ بَنَوْهُ مِنْ قُرَيْشٍ وجُرْهُــمِ
يَميناً لَنِعْمَ السَّيدَانِ وُجِدْتُمَا * عَلَى كُلِّ حَالٍ مِنْ سَحيْلٍ وَمُبْرَمِ
تَدَارَكْتُما عَبْساً وذُبْيَانَ بَعْدَما * تَفَانَوْا وَدَقّوا بَيْنَهم عِطرَ مَنْشَمِ
وَقَد قُلتُما إنْ نُدرِكِ السّلمَ واسِعاً * بِمَالٍ وَمَعْرُوْفٍ مِنَ الأمرِ نَسْلَمِ
فَأَصْبَحْتُمَا مِنْها على خَيرِ مَوْطِنٍ * بَعيدَيْنِ فيها مِنْ عُقُوقٍ وَمَأثَمِ
عَظِيْمَينْ في عُليا مَعَدٍ هُدِيْتُمَا * وَمَنْ يَسْتَبحْ كَنزاً مِنَ المَجْدِ يَعْظُمِ
وَأَصْبَحَ يُحْدَى فيهِمُ مِنْ تِلادِكُمْ * مَغَانِمُ شَــــــــــتَّى مِنْ إفالٍ مُزَنَّمِ
ويرجع الحارث لعروسه بالمجد ، وقد كبرت في عينيه عندما جعلته سيد العرب بلا منازع حتى فاق أباها في الصيت والسيادة .


















