×
15 جمادى آخر 1447
5 ديسمبر 2025
المصريين بالخارج
رئيس مجلس الإدارة: فوزي بدوي
مقالات

الزهرة العقيمة

المصريين بالخارج

بقلم/د.صلاح شفيع

إن كان الصدق ناراً فاغتسل فيها ، وإن كان ماءً فلا تشرب منه ، وهل يكون إلا مالحاً أو مسموماً ؟؟؟ أخطأ اثنان من المسلمين طريقهما للحاق بجيش المسلمين قبيل غزوة بدر ، فأمسكت بهما قريش :
ـ تريدان محمداً !
ـ إن نرد إلا يثرب !
ـ فاقسما على ذلك وانصرفا ..
فلما أخلت قريش سبيلهما ، وذهبا إلى جيش المسلمين بعدده القليل ، وكان بحاجة لكل فرد ينضم إليه ، وحكيا قصتهما ، قال لهم النبي صلي الله عليه وسلم :
ـ بل تفيا لهم بعهدكما ، ونستعين بالله عليهم ..
نعم خسر المسلمون اثنين هم في أشد الحاجة لجهودهما في معركة عددهم فيها قليل ، ولعله يخسر المعركة ، لكنه لم يخسر نفسه ، ومن لم يخسر نفسه لم يخسر شيئاً ، ومن خسرها لم يبق له شيء ! ولهذا قال أبو بكر : أيها الناس ، إياكم والكذب ، فإنه مجانب للإيمان ، ولِم لا ؟ وهو ضد المروءة .. وما أدراكم ما المروءة ؟ وهل المروءة إلا الحياة ؟! من فقدها فهو جيفة تمشي على الأرض .. لهذا قال محمد بن كعب : إنما يكذب الكاذب من مهانة نفسه عليه .. لهذا لما رؤي أحد الملوك يكذب قيل : إن كل الرفعة التي ارتقى إليها في أعين الناس لا تشفع له في عين نفسه ، فما زال صغيراً في عين نفسه ، ومهما ارتفع ، لن ينسى أنه صغير ، فهذا الصغير في عين نفسه ، لا يكبر بأي منصب !
الكذب ضد الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، لهذا قال سليمان بن يسار : فوالله لو ناداني منادٍ من السماء : أن الله قد أحلَّ الكذب ما كذبت ! ذلك لأنه يعلم أن الله طيبٌ لا يقول إلا طيباً ، فإن صدر النداء من السماء بخلاف ذلك ، فليس من السماء ، ولذلك لما صدر نداء من السماء لعبد القادر الجيلاني ..
ـ يا عبد القادر ، إني أنا ربك ، وقد رضيت عنك لحسن عبادتك لي ، لذلك أحللت لك ما حرمناه على الناس ..
فقال عبد القادر ..
ـ اخسأ يا عدو الله .. إنما أنت إبليس .
فسمع ضحكة .. وقال له : كيف عرفت ؟؟
ـ إن الله لا يحلِّل الفحشاء ، أنت فحسب من تأمر بها !
ـ يا عبد القادر لقد خدعت قبلك بهذا كثيرين .. !
ولهذا يفضل العلم العبادة ، والعالم على العابد ، لأن العالم لا يضل عن الفطرة! وإذا أردت أن تعرف أين أنتَ من الإيمان ، فانظر أين أنتَ من الصدق ،وليس هناك مبررات للعدول عن الصدق ، حتى لو كان هناك خسائر من وراءه ، بل عليك به وإن كانت وراءه الخسائر، فالإيمان كما قال الإمام على : أن تؤثر الصدق حيث يضرك على الكذب حيث ينفعك ، وهاهو كعب بن مالك يتخلف عن تبوك ، ويستعد لتبرير سبب تخلفه ، فلما وجد الناس تنتحل الأعذار ، فيتجاوز النبي صلي الله عليه وسلم عنها قال في نفسه : لأنا والله ألحن بحجتي منهم .. ! لكنه لما وقف أمام النبي صلي الله عليه وسلم : لم يستطع إلا الصدق ، فقال الحقيقة ، وأنه تخلف ولا عذر لديه ، فهنا ، أجَّل النبي الحكم فيه حتى يحكم الله ، وطلب من المسلمين ألا يكلموه ، وياله من عقاب ، أي عقاب مادي أهون منه ، إذ يحمل سجنه معه أينما سار ، ويظل منفرداً وسط الناس ، لا أحد يكلمه ، لا أحد معه في البيت ، لا أحد يرد عليه السلام ، إنه كالأخرس معه لسان ، لكنه معطَّل . وبعد خمسين يوماً من هذا العقاب النفسي الشديد ، يتوب الله عليه هو واثنين معه صدقا مثله ، ويرتفع النداء في المدينة كلها : لقد تاب الله على الثلاثة ، أما الذين كذبوا على النبي ، فيتوعدهم الله بالعذاب ، فبذلك عرفوا أنهم من أهل النار وهم بعد على قيد الحياة ، وهنا يدرك كعب بن مالك قيمة الصدق الذي انتشله من النار ، وقد أوشك أن يقع فيها لو طاوع هوى نفسه ، واستخدم براعته ليقدم للنبي صلى الله عليه وسلم عذراً مقنعاً .. يقول كعب :
ـ ما أنعم الله عليَّ من نعمة بعد إذ هداني أعظم من صدقي رسول الله صلي الله عليه وسلم ، أن لا أكون كذبته ، فأهلك كما هلك الذين كذبوا حين نزل الوحي .
أما الذين كذبوا فلم تبكِ عليهم السماء أو الأرض ، لأنهم هانوا على أنفسهم ، فهانوا على كل شيء ، كما القمامة لا يشغل أحد باله أين تصير ، وما أدق اقتراب الكاذب من القمامة ! فإنك بمجرد أن تعرف أن فلاناً كذاب ، حتى تجد له رائحة منفِّرة كنت لا تجدها من قبل ، ووشيكاً لا تصبح قادراً على التعامل معه .. وليس هذا فحسب ، بل يصبغ الكذب كل كلامه ، إذ لا تستطيع أن تصدقه إن صدق ! ولهذا قال المفكر الألماني نيتشة : لستُ منزعجاً لأنك كذبت عليَّ .. لكنني منزعج لأنني لن أصدقك بعد هذه المرة !
حتى يتسنى للأمير الصيني أن يتوَّج ملكاً لابد أن يتزوج كما يقضي قانون المملكة ، ودعا كل بنات الإمارة التى تطمح للزواج به إلى مسابقة ليختار الأجدر منهن ، كل من تسجِّل اسمها للاشتراك في المسابقة ، يمنحها بذرة ..
ـ من تأتيني بعد ستة أشهر حاملة أجمل زهرة . ستكون امبراطورة الصين المقبلة !
كانت منهن ابنة البستاني ، التى رجعت بالبذرة ، ووضعتها في أصيص فخاري ، لو كان الزهر يرتوي بالنظر لخرجت أجمل زهرة ارتوت بأجمل عيون ، لكن مضت ثلاثة أشهر دون أن ينمو شيء ، جرَّبت شتى الطرق ، وسألت أباها ، لكن لم تجد النصائح ، قال لها أبوها :
ـ الأمر سهل يا ابنتي .. آتيك بأجمل زهرة من بستان القصر !
لكنها رفضت ، وجاء الموعد ، وأقبلت النبات ، كل واحدة تحمل زهرة جميلة ، إلا هي .. كانت تحمل زهرية بلا زهرة .. توارت خجلاً ، وتمنت لو لم يناد على اسمها .. تتمنى أن تغمض عينيها فتجد نفسها قد انتهت من هذه المسابقة ، وتمنت لو لم تشترك فيها من الأساس ، نودي على اسمها .. تقدمت تحمل الزهرية العقيمة ..
ـ أين زهرتك يا بنية ؟.. قفي في هذه الجهة !
وقفت في جهة ، لا يصاحبها فيها أحد ، كل البنات أولات الزهرات الجميلة .. يقفن في الناحية الأخرى ، لا أحد يملك خيبتها ، يؤنس وحدتها .. ودخل الأمير .. ونظر إلى المتنافسات بكثير من الاهتمام والانتباه .. ثم أشار إلى ذات الزهرية العقيمة ..
ـ تلك امبراطورة الصين القادمة .. !
احتجت الفتيات .. إن زهريتها بلا زهرة !
ـ لكنها تفوح برائحة طيبة .. كلكن غيَّرن البذرة .. التي أعطيتها لها .. هي وحدها التي صدقت .. زهريتها أنبتت الصدق وهو أطيب رائحة منكن جميعاً !
كان الأمير قد أعطى لكل منهن بذرة عقيمة لا يمكن أن تنمو ، وكانت المسابقة ليس أن تأتي الواحدة منهن بأجمل زهرة ، بل الفائزة التي تأتي بزهرية بلا زهرة .. التي لا تزيِّف هي الجديرة بأن تصبح امبراطورة لأنها تحمل بذرة الشرف ، أما التي تأتي بزهرة جميلة ، فهي امرأة مزيفة .. الصدق هو من قاد تلك الصبية من الحضيض إلى العرش ، والصدق هو من أنبت السعادة الأبدية التى غمرت تلك الأسرة .. !
فازت الفتاة لأنها لم تختر الكفة الراجحة ، فلو أرادت رجحاناً لفعلت مثل الأخريات ، لكنها جاءت المسابقة وهي واثقة أنها قد خسرت قبل أن تبدأ .. ذلك هو الصدق يحب أن تختاره والمكاسب تبدو أنها ليست معه . فإذا اخترته وهو كذلك وجدت الكسب كل الكسب عنده .
اختار الأمير هذه الصادقة ، لأنه أراد أن يعيش مع واحدة ظاهرها هو باطنها ، واحدة تظل واحدة ، واحدة لا تكون اثنتين ، ذلك لأن الكذب يشطر الكاذب إلى اثنين .. الكذب ينفيك عن نفسك ، يسلبك نفسك ، وليس يضيف لها نفساً جديدة .. ويظل الكاذب يرتدي أقنعته المتعددة واحداً بعد الآخر ، وحتماً ينسى أي الأقنعة لبسها أمام هذا تحديداً ، وقديماً قالوا : إذا كنت كذوباً فكن ذكوراً ، وهيهات أن يتذكر !
أذكر مرة أن مدرساً شديداً علينا في الثانوية ، وكان فصلنا المشاغب لا يصمت إلا معه خوفاً منه ، ثم رحل الأستاذ بعد عملية جراحية ، وهلَّل الفصل لرحيله ، فبرحيله لم هناك من يردعهم ، وجاء مكانه مدرس شاب ، كنت وأنا في الفصل أشفق على هذا المدرس المسكين الذي يدفع فاتورة معاناتهم من سابقه ..
كان الفصل عدده خمس وستون طالباً ، في مدرج ، وكان الأستاذ لا يستطيع أن يقول عبارة واحدة ، من الضجيج ، والفوضى ، والدق بالأقدام .. ثم سأل سؤالاً : لماذا يتركز الناس في السواحل .. ؟؟ ورفع مهرج الفصل يده ، فسكت الجميع فجأة ، الكل يفسح صمتاً للمهرج ليصنع ضحكته المدوية ..
ـ بمزاجهم !
سواء كانت الإجابة مضحكة أو لا ، فقد تحوَّل الفصل إلى ضحكة هستيرية ..طويلة !
وتمر الأيام .. لأتخرج وأعمل في مدرستي التي كنتُ طالباً فيها ، وأصبح زميلاً لهذا المدرس ، لا يذكرني ، ولا أنسى مأساته معنا ، وإذ به يحكي لي بداياته ، قال لي :
ـ حضرت إلى هذه المدرسة ، وأعطوني أسوأ فصل في المدرسة .. فلان .. وفلان.. وفلان .. وحاولوا أن يفسدوا الحصة .. لكن على من ؟ قلت لهم أنا من الصعيد .. وخلعت الحزام .. فصمت الجميع ..
كان يذكر لي أسماء زملائي الذين جعلوه يرى النجوم ظهراً .. أردت أن أقول له : ألم يقل لك أحدهم : بمزاجهم ؟؟
وإن أنسَ فلا أنسى رجلاً كان يحكي حكاية حضور أمير الشعراء أحمد شوقي إلى بلدتنا الصغيرة بلقاس ، لينزل في سرايا أحد الباشوات الذين كانت البلد تكتظ بقصورهم الرائعة .. وقال لي :
ـ كنت صغيراً في التاسعة من عمرى ، وذهبت لأشاهده .. كان كلما صعد درجة سلم قال بيتاً من الشعر ..
ـ وعلى البسطة ، ألم يقل مقطوعة .. ؟!
ـ حضرتك خفيف الدم !
ـ وحضرتك .. ولدت بعد موت أمير الشعراء بخمس عشرة سنة ، فكيف شاهدته .؟؟
وبهت الذي كذب .. !
كنت أشاهد التليفزيون ، وإذ بسيدة تتحدث عن طفلها الذي يحب الرئيس ، ذلك لأنها من خمس سنين لما كانت الطائرات تحلق كانت تقول له : هذا بابا ... جاء لينقذنا .. نسيت السيدة أن ابنها في وقت تحليق الطائرات لم يكن قد ولد بعد ، فلمن كانت تقول ؟؟ إنها تكذب مثلها مثل كثيرين ، لكن هذه استلمتها وسائل التواصل الاجتماعي ، لأن سوء حظها أنها كذبت على الهواء..
وأحد المشايخ المشهورين طلع على التليفزيون فقال : إنه قرأ ربع مليون مجلد ، ولهذا فهو من حقه أن يفتي وأن يعلِّم الناس في إشارة إلى أن من لم يقرأ مثله يجب أن يمتنع عن التصدي للعلم ، وقفت على كلمة مجلد .. وقلت هل يمكن أن يقرأ مجلداً واحداً في اليوم ؟؟ وإن استطاع فكم يوماً يحتاجه لكى ينتهي من قرأ هذاالعدد ؟؟ ولأني قبلاً قد حسبت عدد أيام أهل الكهف وخرجت .. مائة وتسعة ألاف يوم وخمسمائة ، فقلت ثلاث مائة من السنين عدد أيامها مائة وتسعة ألف ونصف ألف ، أي أن مدة نوم أهل الكهف كلها لا تصل إلى نصف الرقم .. وقررت أن استعمل الآلة الحاسبة لنعرف كم من الأيام يحتاجها الإنسان ليقرأ ربع مليون مجلد .. وتلك كانت الإجابة .. ٦٨٤.٩٣ سنة .. طبعاً سيادته لن يعيش وإن أطال الله في عمره أكثر من خمس وثمانين سنة .. إنه الكذب .. يجتهد صاحبه ليصرخ لنا أنا ورب العزة كذاب ..
إن الكذب يجعلك وحيداً وسط الناس ، لأنه يجعلك مغترباً عن نفسك ، فإن هو إلا رحم لا ينجب إلا وهماً !
والعجيب أن الكاذب يعرف جيداً قبح الكذب ، وشناعته ، ويمكنك أن ترى ذلك لما تقول لكاذب أنت تكذب ، تراه يثور بشدة لاتهامه بالكذب ، ولو كان يستحق الإقناع لقلنا له عجباً لك ، لا تحتمل وصفك بالكذب ، فكيف تطيق أن تحمل الكذب فوق ظهرك !
يقول العرب : دُهدُرَّين وسعدُ القَين .. !
كنت أسمعهم يقولون ذلك مثل في الكذب .. لم أكن أفهم ما علاقته بالكذب ، حتى عرفت قصته .. فسعد القين هذا كان تاجراً ، يدعى للناس أنه لن يقيم ليشتروا منه ، ثم في الصباح يجدونه مقيماً ، فأما دُهدُرَّين فهي اسم للباطل ، وهى في صيغة مثني ، وسعد مرفوعة لأنها مناد، وكأنهم يقولون له: بالغ في الكذب مرة بعد مرة يا سعد القين.
تنازع الغراب والهدهد على حفرة ماء إلى قاضي الطير ، ولم يستطع أحدهما أن يقدم بينة على استحقاقه الحفرة ، فقال القاضي .. أحكم بالحفرة للهدهد ، فقال الغراب : لماذا حكمت بها له ؟ قال لأنه اشتهر عنه الصدق بين الناس ، فقالوا : أصدق من هدهد . سكت الغراب ، أما الهدهد فقال :
ـ مادام الأمر كما تقول ، فإن الحفرة للغراب ، وما كنت لأشتهر بصفة وأفعل خلافها!
قيل لي ..
ـ فلان حقق نجاحاً عنك !
ـ تقصدون أنه أكثر علماً ؟؟

ـ لا ، أنت أكثر علماً منه ، لكنه أكثر شهرة !
ـ لكنه كذاب ، لو عرضت لي شهرته مضروبة في عشرة مع كذبه ، ما قبلتها .. !
ياقوم .. أترون هذه الجميلة ؟؟ من لا يتمنى تلك الحسناء رائعة الجمال ؟ لكن الرجل بحق يرفض هذه الجميلة إن علم أنها حسناء الدمن ، وحسناء الدمن أي جميلة الشكل ، قذرة المضمون ، أترضى أن تتزوج عاهرة جميلة ؟؟ هذا الذي تقول عنه حقق نجاحاً هو هذه العاهرة الجميلة .. ! يا عزيزي .. أهلا بالشهرة التي لا تفقدني نفسي ، ولا أهلا بها إن كنت سأدفع فيها نفسي .. !
ألا يعلمون أني لا أقبل أن أكون مكانه .. إن كان ذلك مشروطاً بأن أحمل صفاته ؟؟ ألا يدرون أن الكذب قبر دفن فيه الكاذب نفسه ، فهو قبر يمشي على الأرض ..
إنه من العجيب أن تدفع نفسك في شيء مهما كان هذا الشيء .. تكون كمن باع نفسه للشيطان لتدخل الجنة !

ويظل الإنسان يكذب يكذب .. حتى لا يستطيع الرجوع .. وتلك علاماتها أن يعرف الناس عنه أنه يكذب .. أذكر أن ثمة إعلامياً كبيراً كانت بدايته على اليوتيب هي كشف التناقض لبعض الإعلاميين والسياسيين ، الذين قالوا الشيء وعكسه .. وأصبح بعض الإعلاميين معروفين بالاسم أنهم كاذبون . بل أصبحوا يذكرونني بنكتة شهيرة تحكي عن حاخام رأى عدداً من الأطفال في الطريق ملتفين حول كلب صغير ..
الحاخام : ماذا تفعلون يا أطفال ؟
الأطفال : نتراهن من منا أكثر كذبا . والذي سيفوز .. يأخذ الكلب .
الحاخام : يا لكم من أشرار .. أتتراهنون على شيء محرم كالكذب ، عندما كنت في سنكم لم أكن أكذب إطلاقاً .
الأطفال : خذ الكلب .. فقد غلبتنا !
لكن هل الكاذب الذي لا يصدِّق الناس ، يمكن أن يصدِّق أحداً .. ؟؟ الحقيقة أن هذا هو عذاب الكاذب الحقيقي ، ذلك لأنك تعاني لما تعرف كذاباً واحداً ، ويكون كل همك أن تبتعد عنه ، أو تضع بينك وبين كلامه سوراً ، فما بالك بالكاذب وهو يرى الجميع بعين نفسه ، ويحكم عليهم بأسلوبه ..
أيها الكاذب .. لا يفضحك لنا إلا ذاكرتك وقف جاري ميللر أمام أبي لهب .. فرآه قد اجتهد في تكذيب ابن أخيه محمد صلي الله عليه وسلم ، كان يقول للناس أنا عمه وأعلم به ، إنه كاذب ، ونزل القرآن يقول : تبت يدا أبي لهب وتب ، سيصلى ناراً ذات لهب . تساءل جاري ميللر : لماذا لم يعلن أبو لهب الإسلام ولو كذباً ؟؟ إن إعلانه الإسلام يحقق هدفه الذي عاش من أجله ، إعلانه الإسلام يكذِّب محمداً بطريقة قاطعة .. لكنه لا يفعل .. ويظل بعد نزول القرآن فيه عشر سنين ، يجتهد في تكذيب النبي ، ولا يفعل الشيء الوحيد الذي يحقِّق هدفه ، لقد أسلم جاري ميللر لما وجد القرآن يعلن أن أبا لهب سيموت كافراً ، ويظل أبو لهب عشر سنين عاجزاً عن كذبته الأخيرة . فهنا أدرك ميللر أن الذي أعلن أن ذلك الرجل سيموت كافراً كان يدري أنه سيعجز عن نطق كلمة الإسلام ولو كذباً ..
لكني أريد من هذه القصة زاوية أخرى . هو أن الكاذب إذا وصل إلى القمة في الكذب ، يظل عاجزاً عن كذبته الأخيرة .. فالكذبة الأخيرة تحوله إلى صادق ، أو على الأقل تجعل الصادق كاذباً .. لذلك هو يحال بينه وبين تلك الكذبة ..
إن الكاذب أحد أكبر أنصار الصدق ، لأنه برغم كذبه يتشدق بالبعد عن الكذب ، وإدعاء الصدق ، فهل هناك بعد ذلك شهادة على سوء الكذب أكثر من شهادة الكذاب نفسه ؟؟
أو كان الصدق خطيئة حتى يكون الكذب عقيدة ؟؟!
وأترككم مع قصة قصيرة لي نشرتها في كتابي : الغباء اسمه نحن ، القصة تحت عنوان : السمندل ..
لم يهتم قاسم إطلاقا وهو يرى أخاه على بابا يحمل كنز الحرامية أن يرى أين يذهب به ، فقد كان متأكدا أنه سيحمله إلى بيتهم ، أخيرا يقودهم على بابا إلى الخير ، بعد أن عاش ينفر من العمل ، ولايفعل شيئا سوى أن يحمل زمارته ويغنى ..
لم يقنع برقة إحساسه ، بل بقيت يداه أيضا رقيقة ، ورغم ذلك ظل أخوه قاسم يرعاه وينفق عليه .. ويقول :
ـ أخرج ألتمس فى شمس النهار رزقى ، أعود محملا برزق كل الأفواه ..
جاء الوقت ليحملهم على بابا على جناحيه إلى الرخاء والسعادة الأبدية لكنه يقرر أن يأكلهم من يده هذا اليوم أيضا ، ومن الغد يسلم لعلى بابا الراية ..
ـ أكثر مايخوفنى من هذا الثراء أن يحرمنى من العمل .. وقد كان العمل متعتى .. لم أعرف أجمل متعة منه .. هل بعد الثراء سأجد نفس الإحساس .. أشك .. ماهذا ياقاسم .. أتتبرم من الرزق .. احمد ربك .. ياجدع ..
ويعود إلى المنزل فى المساء كعادته ، يحمل طعام البيت ، يعلم أن على بابا يبحث عنه الآن بفروغ صبر ، ليزف إليه البشرى ، فكم حلم على بابا بصوت مسموع أن يعوضه كل مايفعله من أجله ..
يدخل كأنه لايعرف شيئا ، يلقى السلام على على بابا ، كالملتهم للصمت ، يرد وهو منشغل بما يأكل ، عيناه كأنها قادمة من مشوار بعيد ، لايفهم قاسم شيئا ، يفرد طعامه ويدعوه للأكل ..
يأكل معه على بابا كالمنصرف عن الأكل ..
ـ مالك لاتأكل ..
ـ لانفس لى ..
ـ خير؟
ـ خير !
أيكون على بابا قرر الانفراد بالكنز ، لاأثر له فى البيت ، ولا يبدو فى وجه على بابا نية إخباره به ؟ أهذا هو النعيم الذى ظل على يعدهم به ؟؟ أم من تعلم أن يأخذ دائما لايعرف كيف يعطى .. لايعرف إلا أن يمد يده .. أنسى كيف كنت أبسط لحمى مائدة ليأكل ، هذا هو الجحود إذن ؟! لأول مرة يراه كتابا مفتوحا ، سطورا واضحة .. لايدرى أكان كتابه مفتوحا دوما وهو الذى لايرى .. أم لم يفتح إلا اللحظة ..
حانت منه التفاتة لعدة الحطب ، مازال فى حاجة إليها ، يحمد الله أنه لم يرجع اليوم إلا بطعام ، قد جهر على بابا بجحوده وقرر أن يغتنى وحده ولايسدد ديونه ، قرر أن يتنكر حتى لأحلامه التى طالما أتعب سمعهم بها .
بهدوء يقترب منه على بابا .. يقول له
ـ أريد أن أتحدث معك فى موضوع مهم ..
ـ اتفضل ياعلى .. وهل بيننا حواجز ؟؟
ـ أحتاج فلوس .. أبدأ بها مشروع .. تعبت من البطالة ، أريد أن أعمل ، وأكفيك نفسى .. لقد تحملت كثيرا ، كمل جميلك ..
لم يكن بحاجة لأن يتفرس فى وجهه ليرى كم الكذب الهائل فى عينيه ، فللكذب رائحة كالبنزين تزكم النفوس .. وعلى بابا هذه اللحظة يبدو مثل قطنة مثقلة بالبنزين ، البنزين أثقل من قدرة مسامها على الاحتفاظ به ، يتساقط منه ، ينز كذبا ..يحس أنهما قد أصبحا فى بركة من البنزين ..
ـ لكن لامال معى الآن ..
يقولها وهو ينظر إليه ، يرى فى عينيه لافتة استنكار ، ولسان حاله يقول له أتتخلى عنى ..
ـ فعلا ، ليس معى ..
ـ لكن تقدر تتصرف ..ثم أنى سأردهم لك عند أول دخل من المشروع .
يسود الصمت ، وترتفع رائحة البنزين جدا ، أيبصق فى وجهه ، أيصفعه ويقول له كفاك كذبا .. لايدرى لماذا يطلب مالا لايحتاج إليه ، أهى حجة ضده ، فلو لم يساعده يكون ذلك مبررا للابتعاد عنه بكنزه .. وإذن سوف يخرج يشكو للناس جميعا ، أخى يتخلى عنى ..
مطلوب أن يعطيه أو يرسب فى الاختبار ، لكن لو أعطاه هل ينتهى الأمر عند هذا الحد ، أم سيتكرر الطلب حتى يشهر قاسم تبرمه ، فيشيح على بابا بنفسه عنه .. ويبتعد بالكنز وحده ..
ماكل هذا الإجهاد والتكلف ، ولم تلك اللفة الطويلة ؟ أم لابد للجحود من شرعية ؟؟ عاريا أمامه ، ولايدرى ..لايستطيع إلا أن يراه ..
ـ لم لاترد ، هل ستتخلى عنى ..
ـ أنت تعلم أننى لاأملك ..
ـ لكنك تقدر أن تتصرف ..
ـ لكنى زهقت منك ، ومن كسلك ، قرفت ، لم أعد أطيق رائحتك ، لاأريدك ، انتظرت طويلا أن ترحل من نفسك ، لكنك كالرائحة العفنة راكدة فى مكانها ، وأنفى لم يعد يتحمل ..
ـ هكذا ، أتظن لأن ربنا أعطاك وأنا ضيقة علي تصبح رائحتى عفنة ، على كل حال شكرا ، لكنى أريد أن أقول لك شيئا ، قد ظهرت على حقيقتك ، واعلم : إن الدنيا لاتدوم لأحد ، النهاردة معاك بكرة تبقى معى ..
ـ وأنا لم أتمن لأحد أن يعطيه الله مال قارون سواك ، ليس حبا فيك ، بل لتبعد عنى .. فليغنك الله لكن ارحمنى ..
يسود الصمت ، والبنزين .. يعلم أن على بابا يستدرجه ، وقد حقق له مايريد ، ليرى آخر المطاف ..
ـ اسمع ياعلى بابا ، لو أعطيتك ماتريد ، لاتطلب منى ثانية ..
ـ لاأريد منك شيئا ..
ـ لاتزعل منى ، قد انفعلت .. وأنا آسف .. سأتصرف لك فى المبلغ ، فأنت لاتهون على ..
ـ لاأريد شيئا ..
ـ عشان خاطرى ..
ـ لا .. حتى لو قدمت لى مال قارون لن أقبله ..
ـ لماذا تمنعنى أن أصلح خطئى ..
ـ أنا حر ياأخى ، لاأريد منك شيئا ، لقد رأيت الدنيا تقبل على عندما عايرتنى بفقرى ، وأحسست أن الله سيعوضنى ولن يتركنى فريسة لتحكمك .. فلماذا أقبل تفضلك على ، وأفسد الخير القادم نحوى ..
ـ هذا شأنك ، لكن اعلم أننى لم أتأخر عليك ..
ـ بعد أيه ..
ـ اسمع ياعلى ، أنا لاأريد منك شيئا ، وإذا كان قد ظهر لك باب رزق فربنا يبارك لك ، لاداعى أن تفتعل هذا الأمر لتمحو كل معروفى السابق نحوك .. فإذا كنت لقيت كنز أو ماأشبه .. حلال عليك ..
ـ كنز .. ضحكتنى ياأخى .. هو فيه حد بيلاقى كنوز هذه الأيام ..
ـ يعنى لو حدث ، أنا لاأريد منه شيئا ، ولاأريد منك شكرا ، فقط لاتلبسنى العمة ..
ـ ياعم ، قل ياباسط .. أنت خيرك على ..
ـ بلاش النغمة دى ياعلى ، واسمع منى هذه الحكاية يمكن تغير موقفك ، هناك عند الجبل الغربى ، كنت ماشى ، لقيت واحد ، العلم لله يشبهك ، يدخل مغارة الحرامية ، ويشتال شوال فلوس على كتفه ، ويمشى ، مشيت وراه ، عرفت خباهم فين ، واستنيت لما مشى ، وطلعتهم ، وفى حتة العفريت الأزرق ما..
ـ يعنى شفتنى ..
ـ هو كان أنت ..
ـ قاسم ، بلاش تلعب معايا ..
ـ ماأنت بتلعب من الصبح ..
ـ يعنى خدت فلوسى ..سرقتنى ياقاسم ..
ـ أنت من شوية بتقول إنك مفلس ، وجاى تستلف منى ، يعنى ربنا أعطاك وادعيت الفقر ، خدهم منك وأعطاهم لى عشان أما تطلب منى تلاقى ..
ـ قاسم ، قل لى وديت فلوسى فين ..
ـ بقول لك العفريت الأزرق لايعرف مكانهم ، يبقى هأعرف أنا ..
ـ الموضوع لايحتمل هزار ، فلوسى ياقاسم ..
ـ ليست فلوسك ، دى فلوس الحرامية ، سرقتها منهم ، وخبيتها ، وخدتها أنا ..
ـ سأقتلك .. دى حلم حياتى ..أملى ..
ـ معايا ومعاك واحد ..
ـ سأقتلك لو لم تقل لى أين كنزى ..
ـ هكذا .. نفترق .. فلوسك فى مكانها ويمكنك أن تتأكد.

استطلاع الرأي

أسعار الذهب

متوسط سعر الذهب اليوم بالصاغة بالجنيه المصري
الوحدة والعيار الأسعار بالجنيه المصري
عيار 24 بيع 3,566 شراء 3,589
عيار 22 بيع 3,269 شراء 3,290
عيار 21 بيع 3,120 شراء 3,140
عيار 18 بيع 2,674 شراء 2,691
الاونصة بيع 110,894 شراء 111,605
الجنيه الذهب بيع 24,960 شراء 25,120
الكيلو بيع 3,565,714 شراء 3,588,571
سعر الذهب بمحلات الصاغة تختلف بين منطقة وأخرى

مواقيت الصلاة

الجمعة 09:58 مـ
15 جمادى آخر 1447 هـ 05 ديسمبر 2025 م
مصر
الفجر 05:04
الشروق 06:36
الظهر 11:45
العصر 14:36
المغرب 16:55
العشاء 18:17