في الفن

بقلم :  بهجت العبيدي

كاتب ومفكر مصري مقيم بالنمسا

إن الدولة المتقدمة تعي وعيًا عميقًا لقيمة الفن ، ومن هنا يكون للفنان لديها مكانة كبيرة ، فالفن - الحق - يؤدي رسالة هامة للمجتمع ، حيث يشارك مشاركة فاعلة في بناء الشخصية ، وإن كانت المدرسة والمنزل ودور العبادة تلعب دورًا محوريًا وهامًا في بناء الشخصية؛ فإن الثقافة والفن لا يقل دورهما عن دور تلك المؤسسات المنوط بها تربية النشء مرة، وبناء الشخصية أخرى، وتوجيه الرأي العام ثالثة.

إن الفن مرآة المجتمع ، وليس للفن مهمة مباشرة إلا في الدول المتخلفة، فلا يعني أن يعرض الفن سلبية من سلبيات المجتمع ، أنه يدعو لاقترافها ، بل يقوم بالتنبيه عليها ، لتقوم المؤسسات المعنية بعلاجها، ولنضرب مثلا يروق للبعض، لقد أرسل شعراء الأندلس الصيحات لأهل المشرق ، محذرين من خطورة الموقف، وأن الدولة نتيجة للخلافات على شفا الانهيار، ولكن لا حياة لمن تنادي.

لا شك أنه ليس من مهمة الشاعر البحث عن الحلول، ولكن من مهام الشاعر "الفنان عمومًا" أن يمثل زرقاء اليمامة، طبعًا هذا مجرد جانب، وهناك جوانب أخرى، فلو نظرنا في أدب نجيب محفوظ والذي استعانت به السينما لوجدنا الرجل قد شَرَحَ وشرَّح المجتمع المصري تشريحًا تفصيليًا، ليضع الصورة كاملة بتفاصيلها الدقيقة أمام المجتمع نفسه.

ولننظر مثلا في فيلم "أهل القمة" لنجد الرجل راصدًا لمتغيرات المجتمع مرسلًا هو الآخر الصيحة تلو الصيحة، مؤكدًا أن المجتمع يذهب في المادية المفرطة، ولا يقيم للقيم العليا وزنًا، وهو ما يؤكد أن هناك تغيرًا قادمًا لا محالة في أخلاق الأجيال القادمة، وهو ما حدث، وهو ما يعاني منه المجتمع المصري حاليًا، وهو ما يجعل الغالبية العظمى من الأجيال القديمة تبكي وتتباكى على ما كان يصبغ الماضي القريب من قيم مثلى ، وإن كنتُ ممن لا يؤمنون بأن هناك زمنًا : ماضٍ أو حاضرًا أو مستقبلًا يمكن أن يكون كله جميلًا، أو أن يمتلك كل القيم المطلقة، التي هي بكل تأكيد نسبية ومتفاوتة بين عصر وآخر.

ولنأخذ مثلا آخر من أديبنا العالمي نجيب محفوظ يروق بلا شك لأنصار الإسلام السياسي، الذين يكرهون الرجل، ولكنهم - لا شك - لا يتورعون في تبني وجهة نظره إذا تماهت مع يدعون إليه، أو إذا ما ساعدت في إثبات إدعاءاتهم - وهو قصته سائق القطار التي حذر فيها من قيادة الرئيس جمال عبد الناصر للدولة، والذي رأى فيها أن الرجل يسير بالبلد للهاوية وكان ذلك قبل نكسة العام ١٩٦٧.

وهو أيضًا ما يمكن أن يجدوه في مثال آخر لشيخنا نجيب محفوظ في قصته القصيرة "خمارة القط الأسود" والتي أيضًا حسب أغلب النقاد كانت عن الرئيس جمال عبد الناصر، والذي صوره فيها بأنه قد أفسد على المصريين - رواد الحانة - سعادتهم و"انبساطهم"، كما صور العلاقة بينه وبين الغرب، تلك التي أشار لها بعلاقة "الغريب" عن الحانة، بصاحبها ذي العيون الزرقاء، الذي انتظر اللحظة المناسبة وأذل الغريب، بعدما أسكره. في إشارة من محفوظ لانكسار زعيم العرب جمال عبد الناصر.

إذاً الفن ليس مجرد عبث كما يظن البعض، فالدول تقاس برقي فنونها، والرقي لا يعني الكذب وتزييف الحقائق، فيمكن لفيلم نراه نحن يقدم صورة بغيضة فإذا به في نظر الدارسين للفنون فن راق.

إن المثقفين وأهل الفن مُكَرّمون في كل المجتمعات الراقية، فهم الموهوبون، والموهبة شيء نادر وهي هبة من الله سبحانه وتعالى لا يتحصل عليها إلا قلة قليلة من البشر، ومن هنا يأتي الاهتمام بهم، والموهبة في كل مجال مُقدّرة %أنه لا يمكن صناعتها، فيمكن لدولة أن تخرّج ١٠٠ ألف طبيب ومثلهم من المهندسين ومثلهم من المحامين ومثلهم من المدرسين، ولكنها لا تستطيع أن تصنع موهبة واحدة، ومن هنا يأتي الاهتمام بالمواهب، وتقديرهم التقدير الهائل.