نيران مشتعلة
بقلم / محمد سعيد
المشهد بصالة ركاب المطار... فتاة ثلاثينية تقف متجمدة الملامح والأطراف... لا شئ يتحرك بها الا شلال من دمع سائل متدفق من مقلة عينيها... لا تدرى بماهية الأحداث والأشخاص المتحركون يمينا ويسارا من حولها... وكأن الزمن قد توقف بها إلى الأبد.. ودمعها يزداد غزارة مع احتكاك عجلات الطائرة بالأرض معلنة التحليق بعيدا عن أرض الوطن... وكأن دمع عينيها يتسابق ليلتحق بأجنحة تلك الطائرة التى تحتضن قريبا أو حبيبا لها... حتى أتت امرأة عجوز وحركتها لخارج المطار... وكأنها تحرك تمثالا قد تجمد بمكانه للأبد...
تلك هى المشاعر التى التهبت فى قلب تلك الفتاة كنيران مشتعلة تلتهمها من الداخل... كما تلتهم النيران محاصيل القمح فى ليل عاصف...
إنها نفس النيران التى تأججت فى أحشاء ركاب نفس الطائرة محلقين بعيدا عن أوطانهم فى رحلة معلوم اتجاهها مجهول أحداثها وما سيمر بها... تاركين خلفهم حطام أرواح لقلوب ملتهبة تعلقت بهم فى دروب المجهول... وتمضى عجلة الأيام شاهدة على ذاك اللهيب فى قلوب المغتربين... ونار الإنتظار التى التهمت قلب كل منتظر عودة ذاك المسافر من بعيد...
وعام تلو عام...
يمضى المغترب ما بين الرحيل والعودة... حتى يصبح غريبا عن روحه ونفسه.. فتجده عائدا بأجازة قصيرة يمضى اولها بالسلام والترحاب ويمضى بقيتها بين جدران غرفته لا يقوى على القيام بأى نشاط كعادته عندما كان مقيما فى وطنه كأنه قد جاء بمهمة بضعة أيام ليثبت انه لازال على قيد الحياة...
وان حاول البعض التغلب على هذا الشعور بالخروج والبحث عن الأصدقاء والسمر معهم ليعيد ترتيب مشهد قد ألفه منذ سنوات... ولكن هيهات.. فالبعض منهمك فى حياته ووقته قد بات محسوبا بدقائق الساعات... والأخر قد بددت ذاكرته تلك اللقاءات... والبعض ظن المغترب انه قد أمتلك كل مظاهر الرفاهية والمال وقد أتى لينعم برغد العيش فلا حاجة لنا معه بأى لقاء... ليعود المغترب إلى غرفته يجر أذيال الأسى وانه قد بات غريبا ولو كان بين الأهل والأوطان...
ان النيران المتأججة فى صدر المغترب تصبح نيران مشتعلة تأكل من روحه ونفسه وقلبه بمرور السنوات حتى يعتاد عليها لتراه شخصا متكاملا ينعم بالترف والرفاهية من الخارج... وهو بالحقيقة مهشم من الداخل فقد أصبحت الغربة هى وطنه بعدما فقد كل الذكريات الجميلة التى نشأ بينها... وفقد تجمع الأحبة الذى عاش عليه.... فصارت أى أرض هى أرضه.... والوحدة هى سكنه... والصمت يخيم على كل جوارحه.. ويفقد تدريجيا ما تبقى من مشاعر عاشها من زمن فات.. فتساوت عنده البلاد.. والعباد.... وأحيانا تساوت عنده مشاعر الموت والحياة...فليرحل من يرحل... ويبقى من يبقى... فهو قد بات فى طى النسيان... فاللهم رد كل غائب عن وطنه... وأصلح ما بداخله.... وإملأ قلبه باليقين والإطمئنان.....وهون عليه ما رآه وتكبده فى رحلة المجهول بعيدا عن الأوطان.... ........


















