الدكروري يتكلم عن النفس
بقلم : محمـــد الدكــــرورى
إن المرء في هذه الحياة في صراع وجهاد مع أعداء ثلاثة ، وهم الهوى، والنفس، والشيطان، ولا بد له مِن الاستعداد لمُجاهدة كل عدو بما يناسبه من سلاح ، وإن مِن الأعداء التي تعترض العبد في طريقه إلى الله في هذه الدنيا ، النفس التي بين جنبَيه وداخل كيانه .
فكثيرًا ما تكون عدوًا لدودًا ، لأنها تأمر بالسوء ، وتسمى على ذلك بالنفسِ الأمارةِ بالسوء، فهي تميل للشهوات، وتكره القُيود، وتحب الانفلات والتحرر من كل ما تمنع منه، وتضيق ذَرعا إذا ألزمت بأمر مِن الأمور.
وقد حذرنا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم من الخاتمة فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فوالذي لا إلهَ غيره، إن أحدَكم ليعملُ بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعملِ أهل النار فيدخلُها، وإن أحدَكم ليعملُ بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعملُ بعمل أهل الجنة فيدخلها " رواه مسلم .
فمع طغيان المادية، والذي أدى إلى إصابة الأمة أفرادا ومجتمعات بمرض ضعف الإيمان، كان لابد لنا من علاج لهذه الداء العضال، والمرض الخطير الذي أنهكنا حتى تمكن منا عدونا فأصابنا في مقتل، ولأن الإيمان هو الكنز المفقود في حياتنا فكان لابد من وقفة مع النفس نصحح فيها أوضاعنا .
ونجدد فيها إيماننا كما روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الإيمان ليخلقُ في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم ". رواه الطبراني
إن النفس الإنسانية درجات، وأعلى درجاتها ومراتبها النفس المطمئنَّة، تلك النفس التي ترتقي بأعمالِها، وتسمو بفضائلها ، لتخرج من طور النفس الأمَّارة بالسوء حتى تصل إلى طور الاطمِئْنان، وتنتظم في سلك الطمأنينة والإيمان ، والنفس المطمئنة يقول عنها ابن كثبر رحمه الله ، هي النفس الزكية الساكنة الثابتة الدائرة مع الحق .
وأنار الله قلب صاحبها حتى انخلعت عن صفاتها الذميمة، وتخلقت بالأخلاق الحميدة، ولزمت الطاعة واطمأنت بها ، واعتبرت كل ما يمر بها من الحوادث الحياتية خيرها وشرها، ابتلاء ومحنة، فسكنت واستقرَّت في مقام الاطمئنان والسَّكينة والأمن .
إن اللوم والتأنيب الصادق يمكن أن يكون حاميًا للإنسان من التفريط والتقصير، بل يمكن أن يكون مناعةً دائمة للنفس حتى تصبحَ نفسًا مطمئنة، وهذا لا يكون إلا إذا تعوَّد الإنسان على محاسبَة نفسه قبل أي فِعل وبعده ، وإن المؤمن ما تراه إلا يلوم نفسه .
ماذا أردتُ بكلامي؟ وماذا أردتُ بعملي؟ وإن الكافر يمضي ولا يحاسِب نفسه ولا يعاتبها“ والمحاسبة قبل العمل وبعده ، فأما قبل العمل فبأن يقف عند أول همه وإرادته، ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحَانه على تركه .
وقال الحسن رحمه الله " رَحِمَ اللهُ عبدا وقَف عند همه، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر، هذا قبل العمل، وأما بعد العمل فبمحاسَبَتها على طاعة قصرت فيها، فلم توقعها على الوجه الذي ينبغي، فإن كان مما يُستدرك استدركه، وإلا عاد على نفسه باللوم، والندم، والتوبة، والاستغفار، وجدد العزمَ، وسأل اللهَ العفو، والصفح، والغفران ."
ووصول النفس البشرية إلى الاطمئنان هي غاية كل مؤمن، ومسعى كل مخلص، ومتى رأى الله من العبد جهدًا في علاج نفسه ومجاهدته، أعانه، وهداه السبل، ويسر له طرق الوصول إلى مراقي السعود، ومراتب القرب والأنس به ، فالنفس تعلم أنه لن ينفعها في التعامل مع الله سوى الصدق، والصدق هو ما يجعلها تعيش مطمئنة .
وحقيقة الطمأنينة هو ذلك السكون والاستقرار اللذان يكسوان النفس، ويخالطانها؛ فتسكن إلى ربها، وطاعته، وأمره، وذكره، ولا تسكن إلى سواه، وتطمئن إلى محبته، وعبوديته، وأمره، ونهيه، وخبره، وإلى لقائه ووعده ، وتطمئن كذلك إلى التصديق بحقائق أسمائه وصفاته .
والرضى به ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبالنبى الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ، رسولًا ، وتطمئن إلى قضائه وقدره، وكفايته وحسْبِه وضمانه، وإلى أنه هو وحده ربها، وإلاهها، ومعبودها، ومليكها ومالك أمرها كله، وأن مرجعها إليه، وأنها لا غنى لها عنه طرفة عين.
والرضا عن الله عز وجل ، هذه الصفة من أهم صفات النفس المطمئنة ، فالقلب عندما يذوق طعم الإيمان يمر عليه البلاء وهو مطمئنٌ ساكنٌ هاديء ، وأن المرء إذا أكرمه الله بنعمٍ كثيرة لا عد لها ولا حصر في الدنيا قد يتوهم أن هذا إنما كان إكرامًا له، وحينما يسلبه الله النعم لحكمة منه يتوهم أن الله أهانه .
ومتى ظهرت علامات الإخلاص على النفس كان دليلا على طمأنينتها وسكينتها ، وهو أن يكون العبد في عناية الله عز وجل ومعيته ، وأن يكون باذلًا المجهود في الطاعة، وحريصًا على إسرار الأعمال إلا على ما ينبغي إظهاره.
والنفس المطمئنه هي التي اطمأنت إلى خالقها، واطمأنت في بسط الرزق وقبضه وفي المنع والعطاء ، وهي النفس المؤمنة التي استوعبت قدرة الله، وتبلور فيها الإيمان العميق والثقة بالغيب، لا يستفزها خوف ولا حزن، لأنها سكنت إلى الله واطمأنّت بذكره وأَنِسَت بقربه فهي آمنة مطمئنّة، تحس بالاستقرار النفسي والصحة النفسية، والشعور الإيجابي بالسعادة، رضيتْ بما أوتيتْ ورضي الله عنها .
وهناك النفس اللوامة ، وهى التي أقسم بها عز وجل في قوله: (وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) قد اختُلف فيها، فقيل، هي التي لا تثبت على حال واحدة، وأخذوا اللفظةَ من التلوم وهو التردد ، فهي كثيرة التقلب والتلون، وهي من أعظم آيات الله عز وجل ، فإنها مخلوق من مخلوقاته، تتقلَّب وتتلون في الساعة الواحدة فضلًا عن اليوم، والشهر، والعام، والعمر ألوانا متلونة .
فتذكر وتغفل ، وتُقبل وتُعرض، وتُحب وتُبغض، وتفرح وتحزن، وترضى وتغضب، وتُطيع وتعصي، وتتقي وتفجر، إلى أضعاف أضعاف ذلك من حالاتها وتلونها، فهي تتلون كلَّ وقت ألوانًا كثيرة.
وإن النفس اللوامة هي الضمير الحي الذي يَحُول بينَك وبين الذنوب، وهي السوط القوي الذي يوقظك حتى لا تلج في خِضَمِّ الشهوات، وهي الجرس الذي يُنبهك عند الاقتراب من حِمَى الشبهات، ومراتع السيئات، وهي السبيل الأوحد للوصول إلى النفس المطمئنة، التي لا تكون النجاة إلا بها، ولا يكون الفوز إلا بالتلبس بِزِيها ، ولقد أقسم الله سبحانه وتعالى بالنفس الإنسانية لأنها أعظم ما خلق وأبدع، وجعل قَسَمَه بها سابع قسم شمل خلق السموات والأرض.
والنفس اللوامة هى نفس أبية كريمة، تلوم صاحبَها على الخير والشرّ معًا، تلوم صاحبَها على الخير لماذا لم تُكثر منه؟ لماذا لم تداوم على فعل الخيرات؟ وتلوم صاحبَها على الشرِّ والمعاصي ، لماذا فعلتَ الشر ؟ لماذا ارتكبتَ المعصيةَ؟ لماذا وقعتَ في الذنب؟ فهي نفس كريمة، أقسم الله عز وجل بها في قرآنه الكريم .
وإن اتباع هوى النفس الأمارة بالسوء يؤدي حتمًا إلى الفشل والتشاؤم، وأما اتباع النفس المطمئنة فإنه يؤدي إلى النجاح والتفاؤل، والسبيل إلى الموازَنَة والتصحيح، وإعادة الإنسان إلى طبيعته الخيِّرة من الأدوار التي تقوم بها النفس اللوامة، إذ أنها تشكل صماما للوقاية، وميزانا للتقويم.
والنفس اللوامة تتزكى عن طريق المجاهدة، والمحاسبة، والمراقَبَة، وهنا يعود صاحبها إلى الطاعة والخير بالتوبة، والذكر والاستعاذة، وغير ذلك ، فحينما يذكر الإنسانُ اللهَ سبحانه وتعالى ، مستعينًا ومستعيذًا به من الوسوسة يخنس الشيطانُ ويهرب، وهنا يجد المرءُ نفسَه عائدًا إلى الله، وفارا إليه من هوى النفس والشيطان، فيفعل المأمورات، ويجتنب المنهيات، ويعود عضوا صالحا في المجتمع.
ونتذكر دائمًا أن يوم الحساب ، يوم جليل خطبه، عظيم خطره، بل هو اليوم الذي ليس قبله مثله ولا بعده مثله، والكل ظاهر ومكشوف فلا زيف ولا خداع ولا كذب ولا رتوش، وجاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: " أنه تعالى يطوي السماوات والأرض بيده، ثم يقول: أنا المالك، أنا الجبار، أنا المتكبر، أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ لمن الملك اليوم، لمن الملك اليوم، لمن الملك اليوم، ثم يجيب نفسه لله الواحد القهار " .
والنبي الكريم صلى الله عليه وسلم يقول " إنما الأعمال بالخواتيم "، ويكمن خطر هذه الكلمة في أن العبدَ عند الموت يكون في غاية الضعف ، فهو يعاني من ألم النزع، والخوف من خطر ما هو مُقبِل عليه عند الموت، وكذا هجوم إبليس عليه بخَيله ورجله، ويقول إبليس لأعوانه ، دونكم هذا الرجل، إن أفلت منكم اليوم لا تدركونه .
ففي هذه الفتنة يثبت الله قلوبَ المؤمنين الصادقين، وتنتكس فيها قلوب المنافقين والمفرطين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوَّذ بعد التشهد الأخير في الصلاة من أربعٍ، فيقول " اللهم إني أعوذُ بك من عذاب النار، وعذاب القبر، وفتنة المحيا والممات، وشر فتنة المسيح الدجال " رواه البخاري .


















