بهجت العبيدي يكتب : سنهنىء المسيحين رغم أنف المتشددين
بقلم : بهجت العبيدي ـ كاتب ومفكر مصري مقيم بالنمسا
يقول أبو الوليد بن رشد أحد أعظم الفلاسفة المسلمين، وأحد أعظم الفلاسفة على مر التاريخ، أنه لا يمكن للنقل أن يتعارض مع العقل، وإن بدا ذلك، فمرجعه، في كلمة واحدة، إلى خلل في فهم النص، فالرجل ثقته في العقل مطلقة، كما إيمانه في النص الصحيح، الذي لم يتدخل فيه راو، ولم يبدل فيه مفتئت على الدين، مطلق كذلك.
وليس هناك عقل ولا عاقل يمنع أن تقوم فئة تنتمي لعقيدة ما بتهنئة فئة أخرى تنتمي لعقيدة لمغايرة بمناسبة عيد من أعيادها، أو بمناسبة حلول مناسبة من مناسباتها الدينية، في ذات الوقت الذي يسمح لهذه الفئة بالتعايش مع الأخرى، بل أكثر من ذلك، بالزواج منها، وتوفير السبل لها للإتيان بشعائرها، إنه التناقض في أبشع صوره، والتنطع، في أقبح معانيه.
ويظل لدي قناعة عميقة أن هناك من يحاول دوما إزكاء روح العداوة بين البشر على أسس مذهبية وعرقية، ويظل اليقين الأعظم لدي أن الدين يتم استخدامه ليصبح مُفَرِّقًا بين الشعوب، بدلا من أن يكون جامعًا لهم، فنجد هناك من يجعل من الدين الذي هو عبادة لله سبحانه وتعالى وسيلة وسببا للكره والبغضاء بين بني البشر، الذين خلقهم الله جميعا، الذي خلق الأديان وبعث الرسل.
ليس صحيحًا ما يشاع أن الأوربيين قد تخلوا عن الدين أو عن التعاليم الدينية، إنني أنظر لهذه الفرية، بعدما سكنت الغرب ما يزيد على ربع قرن، على أنها في إطار حرب تلويث السمعة من جانب، بالإضافة إلى كونها تعكس الفروق الجوهرية في مفهوم القيم الدينية بين المجتمعين: العربي الإسلامي من ناحية والغرب الأوربي المسيحي من ناحية أخرى، فتجد الغالبية العظمى، إن لم يكن الجميع، من دعاتنا، المسلمين، يترك الدعوة لعقيدتنا التي من المفروض أن تكون عمله، ليتناول "مثالب" العقائد الأخرى وعلى رأسها في ظنه المسيحية الغربية، فضلا عن الشرقية التي يحرم بعض دعاتنا ومشايخنا حتى تهنئتهم بأعيادهم، وكأني بهذه التهنئة وقد أخرجت فاعلها من الملة، وهذا هو رأي البعض منهم بالفعل.
وإنني أظن بل أجزم أن هذه الأيام المباركة لدى إخواننا المسيحيين، بمناسبة عيد الفصح المجيد، سوف تكون مناسبة يخرج علينا فيها أصحاب العقول المغلقة، والقلوب المريضة، ليملأوا الدنيا صراخًا، بضرورة عدم تهنئة "النصارى" بأعيادهم، وإنا لمهنئينهم رغم أنف هؤلاء المتشددين.
وأصحاب هذا الفهم الضيق أظن أنهم يفتعلون مثل تلك المعارك الخاسرة لكي يبعدوا الناس عن حقيقة الدين وجوهره، ويشغلوهم في معارك ليست من الدين في شيء، ولن تعود على المجتمع إلا بالشر كله، وستشعل المجتمع، كما هو حادث في كثير من بلدان المنطقة العربية، بمعارك تشغلهم عن العمل والبناء الذي هو جوهر الدين وحقيقته، والذي هو قائم هنا في الغرب الأوربي الذي يسلبه مشايخنا! ودعاتنا كل ميزة وكل فضيلة دينية، حتى الدنيوية منها ينسبونها نظريا لقيمنا الإسلامية وعقيدتنا التي دعت لهذه الفضيلة التي تتمتع بها هذه المجتمعات، وهم في ذلك كله يزيدون تلك الحرب التي يشعلونها من محض خيالهم، كما يشيعون في المجتمعات العربية والإسلامية الرضا الخانع بما هي فيه، فإذا كنا نحن المؤمنين حقًا، ونحن الأفضل صدقًا، ونحن الأتقى ورعًا، والمختارين من الله فضلًا، فماذا ينقصنا وهذه هي الغاية من الحياة.
أتذكر تفسيرًا غريبًا عجيبًا لأحد أكبر رجالات الدين الإسلامي في العصر الحديث الذي أطلق عليه لقب الإمام على الرغم من عدم تنصيبه شيخا للأزهر الشريف وبكل تأكيد ليس من المراجع الشيعية وهو الإمام محمد متولي الشعراوي الذي قال في رده على سؤال يواجه به المسلمون عن هؤلاء الذين قدموا خدمات جليلة للبشرية وحكم الدين الإسلامي فيهم، وهنا يؤكد الشيخ أن ليس لهم نصيب في السماء حيث إنهم قد أخذوا حقهم في الدنيا حيث أقيم لهم التكريم، وحصلوا على المال وصنعت لهم التماثيل تخليدا، أما أن يكون لهم نصيب من جنة فهو لا يرى ذلك؛ لأنهم على حد قوله قد صنعوا ما صنعوه ولم يكن الله في بالهم!! ولا أعلم من أين أتى بهذه الجملة الأخيرة؟!
إن ما قاله الشيخ الشعراوي يعد قطرة في بحر ما يقال لعوام المسلمين، الذين يؤمنون كل الإيمان أنهم مهما كان حالهم ومهما صدرت عنهم من أفعال فهم الأفضل والأحسن والأخْيَر وكلها أفعال تفضيل يلزمها المقارنة بغيرهم الذين هم في الأغلب الأعم اليهود والمسيحيون "النصارى" كما يحلو للغالبية العظمى من المسلمين استخداما للفظ القرآني، والذي يكون، غالبًا، الإنسان الغربي هو النموذج الذي يتبادر للذهن، ذلك الأوربي الذي هو في حقيقة الأمر يعلي قيم الصدق والأمانة والإخلاص في كل ما يقوم به وإتقان العمل " إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه" وهو في إعلائه لهذه القيم إنما يصدر عن ضمير أخلاقي، ليس فقط، كما يحلو للبعض إحالته، لمبدأ الثواب والعقاب الذي هو بالفعل مطبق هنا بالفعل.
وقبل كل هذه القيم التي يتمتع بها ذلك الأوربي المسيحي فإن القيم النفسية مثل التسامح والتراحم والتكافل تلك التي هي روح اﻷديان وجوهرها فستجدها متجسدة في الغالبية العظمى من هؤلاء الذين يحاول مشايخنا جاهدين نفي أي إيمان عنهم.
حقًا هناك جوانب أخرى يمكن للمسلم الشرقي أن يأخذها على هذه المجتمعات في إطار ما يسمى بالحريات الشخصية والعامة التي ينزع إليها الغربي نزوعًا والتي يرى أن ليس فيها ضرر، بمفهومه، لا على المجتمع ولا على الدين في جوهره، أو أنه يرى في ذلك نوعا من التجاوز الذي لا ينفي عنه لا إيمانه بالدين ولا بالإنسانية، ويمكنك، عزيزي القارئ، أن تسمع كذلك بعض العبارات التي تشعر فيها أيضا بالتهاون بالتعاليم الدينية في افعل ولا تفعل الذي يخضعها أحيانًا لمنطق العقل ذلك الذي لا يستطيع أن يدرك في بعض تلك التعاليم الحكمة المبتغاة.


















