×
15 جمادى آخر 1447
5 ديسمبر 2025
المصريين بالخارج
رئيس مجلس الإدارة: فوزي بدوي

"حمص" بقلم سمير الفيل

"حمص" بقلم سمير الفيل
"حمص" بقلم سمير الفيل

بقلم : سمير الفيل ـ دمياط 

في الطريق من بيت جدي إلى سوق البلح شارع يفتقد أي معالم يُستشهد بها سوى متجر" الصالون الأخضر"، وشارع جانبي صغير يفضي إلى زقاق فقير تجلس النسوة فيه ، وقد أكلت وجوههن الشمس .

يبدأ اليوم من بصة الأشعة للحارات ، وغمرها الأجساد بالدفء ، وأمام البيت مقهى لكنه يمتنع على تقديم المعسل ولحسة الحشيش في الصباح ، عادة يؤجل هذا الأمر حتى قدوم الليل باستثناء الخبازين ، ومشعلو الكلوبات ، وبعض المقاولين حيث يتحلقون الجوزة التي تمرر بانتظام غريب عليهم نفرًا نفرًا وقت الظهيرة .

صاحب المقهى نفسه له نظرة غريبة، يفرز الخلق ويصنفهم من النظرة الأولى ، ولا يأمن لمخبر ينقل للحكومة الأخبار . حينما ينقلها للضابط المكلف بالتحري يؤكد عليه ألا يفلت صغيرة أو كبيرة ، وكل ما من شأنه تعكير الصفو العام.

" حمص " يحظى بالاحترام لأنه يتقدم الجنائز ، ومن وراءه حاشيته التي تقرأ السور القرآنية الكريمة ، ويمضون في سجعهم مع التواشيح ، والصيحات الصاعدة للسماء ، تلك التي تدعو للميت بالرحمة ودخول الجنة التي فراشها من سندس واستبرق، أما أولاد الحرام ، من قاطعي الأرزاق وناكري الجميل ، وأعداء الثورة المباركة ، فلهم حفر جهنم.ترتفع هامة " حمص" وهو ينظر خلفه كل دقيقتين ليجد من ينضم له حسب الطريق الذي تسلكه " الجنازة" ، فله في كل حارة " عفريت" . اما لو أن طفلًا غرق في النهر ، أو دهسته سيارة سائقها أعمى ، أو قتلته حقنة تخدير على الفور فهو ـ يسد ولا يترك ثقب إبرة للفراغ ـ موجود لكن دوره يتقلص للمشي بلا صوت.

هذا السير الحثيث برأس مطأطيء ونظرة منكسرة ، أما الكلمة العليا فهي محجوزة لفرقة الملجأ النحاسية ، وهي تتكون من أولاد لقطاء ، تم تدريبهم على هذه المهنة في ملجأ حكومي . يرتدون البنطلونات القصيرة ، بسيور حمراء من جانبي الفخذين ، وخلفهم حملة الصواني الفضية، وعليها زهور ملونة بألوان يغلب عليها الأصفر . عندما تسير الفرقة النحاسية أمام النعش تخرج النسوة باكيات خاصة من اختطف الموت منهن ابن أو حفيد أو أخ ، وعند الاقتراب من مقام سيدي عبدالرازق ، ييمم الأولاد وجوههم شطره ، وتنتقل الفرقة لعزف مارش جنائزي ، بلا موسيقى حتى تبتعد تماما. لم يكن هناك مكبرات صوت ، بل منادٍ عجوز ، له لحية غزاها الشيب ، غليظ الصوت ، يسير حافيا ، متنقلا ببطء بين الشوارع ، وخلفه الأطفال ، يقف عند النواصي وينطق اسم الميت وفرع العائلة ، ويذكر الزمان والمكان الذي يخرج منه " المشهد" ثم يمضي لناصية أخرى .لو حدث وكان للميت ضابط برتبة ملازم أول أو أكثر يكرر الاسم ويلصقه بالميت ويكاد يضرب له " تعظيم سلام" .

في هذا التوقيت كان حوالي نصف السكان ـ أقصد المدينة ـ بلا أحذية ، خاصة عمال اليومية وشريحة المعمار وصبية المقاهي القادمين في قطار السادسة صباحًا ، أما الحذاء المطفي أو اللميع فهو يخص الموظفين والطلاب وميسوري الحال من عمد ومشايخ بلد وقضاة شرعيين . يوجد غير الحفاء طريقتان للتغلب على ضيق ذات اليد. انتعال القبقاب ، وهو من الخشب مع سير مطاطي ، أو شبشب حمام أحمر يروق الناظرين. " حمص " هو من يتقدم الجنازات ، وسيارة المولد ، وموكب الرؤية ، وقد حدث موقف صعب ، ظلت تحكيه حارة البلح لسنوات.

مات " حمص" فارتجت المدينة ، وجاء من مدن قريبة أشخاص ، كل يعرض خدماته فالموقف رهيب ، والمصاب جلل . المعروف أنه قد تعرض لوعكة صحية فسلم " الوشاح الأخضر" لمن يتلوه في الرئاسة. رفضت الحاشية تمرير الفكرة ، ذلك أن من جعله يلبس الوشاح مرة أو مرتين شخص أهطل من طائفة المجاذيب، وهو قليل القيمة ، ولا يشرف موكب هائل كالذي سيشق شوارع المدينة الرئيسية ، لذلك جلسوا في " الوسعاية " أمام المنزل القديم بعتبته العريضة يتشاورون. قال منادي فارسكور: رقبتي سدادة. وقال منادي كفر سعد: أفدي شيخي بعينيّ. قال منادي الزرقا: كانت منزلتي عنده كبيرة . أما منادي عزبة البرج فرفع الصوت يجأر: لا يتولاها غيري. أسقط في يدهم ، وقفوا يتشاورون ، أبعدوا بأيديهم باعة البلح والجوافة وصنف" العجور" والليمون والمانجو البلدي التي قطفت خضراء وستظل بنفس اللون . قالوا للنسوة الباكيات : اليوم إجازة لكن. قدمن ما في المنشات ليوزعه الصبية على من يحضر المشهد ، " رحمة ونور" على الفقيد ، فقبلوا المشورة على مضض.

دخلوا ـ حاسري الرؤوس ـ للمرأة ، وضعوا أعينهم في البلاط ، ربما يكون عندها حل يتغلبون به على المعضلة. قالت وهي تكفكف دمعها وجثة الرجل مكفنة في قماش أبيض في أبيض حتى يصلوا عليه عند العصر، فالتجهيز استغرق وقتا : من كان آخر شخص لبس الوشاح في حياته؟ انعقد ت ألسنتهم ، وكادوا يجنون أو يصرخون ، لكن للموت جلال ، خرسوا جميعا ، أخذها كبيرهم من يدها بكل أدب ، من خصاص النافذة ، أشار بيده المرتعدة مشيرا للمعتوه. رضت به وقالت: ماله. رجل يشرح القلب. أخرجت الوشاح وسلمته للكبير الذي طلب من زملائه الموافقة على الموضوع ، وبعدها يحلها من لا يغفل ولا ينام.

مضت الجنازة تشق الشوارع ، والحاشية تبكي والحناجر ترتل القرآن وأربعة بيارق تخفق في الفضاء حاملة الأسماء المعروفة مطرزة بحروف كبيرة : أبوبكر، عمر ، علي ، عثمان. تم دفن " حمص" وتولى تلقينه أربعة من الشيوخ العتاة ، رجعوا فصفوا الكرسي في سوق البلح. بعد مرور أسبوع وراء أسبوع أخشن صوت حامل الوشاح، ولم يكتف بذلك بل فرض حصة من البلح والجوافة على الجالسات . وغيّر عمامته القديمة ، واقترب من الأرملة الحزينة بعد انصراف جموع المشايخ والحاشية ، عرض عليها الزواج فصفعته بكل قوتها. لم تخبر أحد بما قاله ، وهو أغلق فمه تمامًا ، ظل الوشاح معه ، ولم يتجاسر مرة أخرى على الحديث معها في هذا الموضوع .

كان الأهطل عندما يضطره الأمر للكلام معها في شأن من شئون إدارة " السيارة " أو" الجنازة" يكون معه رجلين أو أربع سيدات ، للتأكيد على أن الأوضاع تسير بسلام ، والفتنة لن يعرفها سوق البلح أبدًا..

استطلاع الرأي

أسعار الذهب

متوسط سعر الذهب اليوم بالصاغة بالجنيه المصري
الوحدة والعيار الأسعار بالجنيه المصري
عيار 24 بيع 3,566 شراء 3,589
عيار 22 بيع 3,269 شراء 3,290
عيار 21 بيع 3,120 شراء 3,140
عيار 18 بيع 2,674 شراء 2,691
الاونصة بيع 110,894 شراء 111,605
الجنيه الذهب بيع 24,960 شراء 25,120
الكيلو بيع 3,565,714 شراء 3,588,571
سعر الذهب بمحلات الصاغة تختلف بين منطقة وأخرى

مواقيت الصلاة

الجمعة 06:27 مـ
15 جمادى آخر 1447 هـ 05 ديسمبر 2025 م
مصر
الفجر 05:04
الشروق 06:36
الظهر 11:45
العصر 14:36
المغرب 16:55
العشاء 18:17