"حمص" بقلم سمير الفيل
بقلم : سمير الفيل ـ دمياط
في الطريق من بيت جدي إلى سوق البلح شارع يفتقد أي معالم يُستشهد بها سوى متجر" الصالون الأخضر"، وشارع جانبي صغير يفضي إلى زقاق فقير تجلس النسوة فيه ، وقد أكلت وجوههن الشمس .
يبدأ اليوم من بصة الأشعة للحارات ، وغمرها الأجساد بالدفء ، وأمام البيت مقهى لكنه يمتنع على تقديم المعسل ولحسة الحشيش في الصباح ، عادة يؤجل هذا الأمر حتى قدوم الليل باستثناء الخبازين ، ومشعلو الكلوبات ، وبعض المقاولين حيث يتحلقون الجوزة التي تمرر بانتظام غريب عليهم نفرًا نفرًا وقت الظهيرة .
صاحب المقهى نفسه له نظرة غريبة، يفرز الخلق ويصنفهم من النظرة الأولى ، ولا يأمن لمخبر ينقل للحكومة الأخبار . حينما ينقلها للضابط المكلف بالتحري يؤكد عليه ألا يفلت صغيرة أو كبيرة ، وكل ما من شأنه تعكير الصفو العام.
" حمص " يحظى بالاحترام لأنه يتقدم الجنائز ، ومن وراءه حاشيته التي تقرأ السور القرآنية الكريمة ، ويمضون في سجعهم مع التواشيح ، والصيحات الصاعدة للسماء ، تلك التي تدعو للميت بالرحمة ودخول الجنة التي فراشها من سندس واستبرق، أما أولاد الحرام ، من قاطعي الأرزاق وناكري الجميل ، وأعداء الثورة المباركة ، فلهم حفر جهنم.ترتفع هامة " حمص" وهو ينظر خلفه كل دقيقتين ليجد من ينضم له حسب الطريق الذي تسلكه " الجنازة" ، فله في كل حارة " عفريت" . اما لو أن طفلًا غرق في النهر ، أو دهسته سيارة سائقها أعمى ، أو قتلته حقنة تخدير على الفور فهو ـ يسد ولا يترك ثقب إبرة للفراغ ـ موجود لكن دوره يتقلص للمشي بلا صوت.
هذا السير الحثيث برأس مطأطيء ونظرة منكسرة ، أما الكلمة العليا فهي محجوزة لفرقة الملجأ النحاسية ، وهي تتكون من أولاد لقطاء ، تم تدريبهم على هذه المهنة في ملجأ حكومي . يرتدون البنطلونات القصيرة ، بسيور حمراء من جانبي الفخذين ، وخلفهم حملة الصواني الفضية، وعليها زهور ملونة بألوان يغلب عليها الأصفر . عندما تسير الفرقة النحاسية أمام النعش تخرج النسوة باكيات خاصة من اختطف الموت منهن ابن أو حفيد أو أخ ، وعند الاقتراب من مقام سيدي عبدالرازق ، ييمم الأولاد وجوههم شطره ، وتنتقل الفرقة لعزف مارش جنائزي ، بلا موسيقى حتى تبتعد تماما. لم يكن هناك مكبرات صوت ، بل منادٍ عجوز ، له لحية غزاها الشيب ، غليظ الصوت ، يسير حافيا ، متنقلا ببطء بين الشوارع ، وخلفه الأطفال ، يقف عند النواصي وينطق اسم الميت وفرع العائلة ، ويذكر الزمان والمكان الذي يخرج منه " المشهد" ثم يمضي لناصية أخرى .لو حدث وكان للميت ضابط برتبة ملازم أول أو أكثر يكرر الاسم ويلصقه بالميت ويكاد يضرب له " تعظيم سلام" .
في هذا التوقيت كان حوالي نصف السكان ـ أقصد المدينة ـ بلا أحذية ، خاصة عمال اليومية وشريحة المعمار وصبية المقاهي القادمين في قطار السادسة صباحًا ، أما الحذاء المطفي أو اللميع فهو يخص الموظفين والطلاب وميسوري الحال من عمد ومشايخ بلد وقضاة شرعيين . يوجد غير الحفاء طريقتان للتغلب على ضيق ذات اليد. انتعال القبقاب ، وهو من الخشب مع سير مطاطي ، أو شبشب حمام أحمر يروق الناظرين. " حمص " هو من يتقدم الجنازات ، وسيارة المولد ، وموكب الرؤية ، وقد حدث موقف صعب ، ظلت تحكيه حارة البلح لسنوات.
مات " حمص" فارتجت المدينة ، وجاء من مدن قريبة أشخاص ، كل يعرض خدماته فالموقف رهيب ، والمصاب جلل . المعروف أنه قد تعرض لوعكة صحية فسلم " الوشاح الأخضر" لمن يتلوه في الرئاسة. رفضت الحاشية تمرير الفكرة ، ذلك أن من جعله يلبس الوشاح مرة أو مرتين شخص أهطل من طائفة المجاذيب، وهو قليل القيمة ، ولا يشرف موكب هائل كالذي سيشق شوارع المدينة الرئيسية ، لذلك جلسوا في " الوسعاية " أمام المنزل القديم بعتبته العريضة يتشاورون. قال منادي فارسكور: رقبتي سدادة. وقال منادي كفر سعد: أفدي شيخي بعينيّ. قال منادي الزرقا: كانت منزلتي عنده كبيرة . أما منادي عزبة البرج فرفع الصوت يجأر: لا يتولاها غيري. أسقط في يدهم ، وقفوا يتشاورون ، أبعدوا بأيديهم باعة البلح والجوافة وصنف" العجور" والليمون والمانجو البلدي التي قطفت خضراء وستظل بنفس اللون . قالوا للنسوة الباكيات : اليوم إجازة لكن. قدمن ما في المنشات ليوزعه الصبية على من يحضر المشهد ، " رحمة ونور" على الفقيد ، فقبلوا المشورة على مضض.
دخلوا ـ حاسري الرؤوس ـ للمرأة ، وضعوا أعينهم في البلاط ، ربما يكون عندها حل يتغلبون به على المعضلة. قالت وهي تكفكف دمعها وجثة الرجل مكفنة في قماش أبيض في أبيض حتى يصلوا عليه عند العصر، فالتجهيز استغرق وقتا : من كان آخر شخص لبس الوشاح في حياته؟ انعقد ت ألسنتهم ، وكادوا يجنون أو يصرخون ، لكن للموت جلال ، خرسوا جميعا ، أخذها كبيرهم من يدها بكل أدب ، من خصاص النافذة ، أشار بيده المرتعدة مشيرا للمعتوه. رضت به وقالت: ماله. رجل يشرح القلب. أخرجت الوشاح وسلمته للكبير الذي طلب من زملائه الموافقة على الموضوع ، وبعدها يحلها من لا يغفل ولا ينام.
مضت الجنازة تشق الشوارع ، والحاشية تبكي والحناجر ترتل القرآن وأربعة بيارق تخفق في الفضاء حاملة الأسماء المعروفة مطرزة بحروف كبيرة : أبوبكر، عمر ، علي ، عثمان. تم دفن " حمص" وتولى تلقينه أربعة من الشيوخ العتاة ، رجعوا فصفوا الكرسي في سوق البلح. بعد مرور أسبوع وراء أسبوع أخشن صوت حامل الوشاح، ولم يكتف بذلك بل فرض حصة من البلح والجوافة على الجالسات . وغيّر عمامته القديمة ، واقترب من الأرملة الحزينة بعد انصراف جموع المشايخ والحاشية ، عرض عليها الزواج فصفعته بكل قوتها. لم تخبر أحد بما قاله ، وهو أغلق فمه تمامًا ، ظل الوشاح معه ، ولم يتجاسر مرة أخرى على الحديث معها في هذا الموضوع .
كان الأهطل عندما يضطره الأمر للكلام معها في شأن من شئون إدارة " السيارة " أو" الجنازة" يكون معه رجلين أو أربع سيدات ، للتأكيد على أن الأوضاع تسير بسلام ، والفتنة لن يعرفها سوق البلح أبدًا..


















