الطفلة العجوز
بقلم : بخيت طالع الزهراني ـ السعودية
( 1 )
لم يكن ذلك الصباح الندّي المضمخ بزمهرير الشتاء ككل الصباحات الأخرى .. كان صباحاً مختلفاً ، ففي أحد أركان القرية الوديعة ، كان الأنين ينبعث من أحد البيوت العتيقة المبنية من الحجر ، لم يكن ذاك سوى أنين امرأة بلغت العقد السابع من عمرها . امرأة تختلف عن النساء ، فلم تنل من أفراح هذه الدنيا وبهجتها ومتاعها سوى النزر اليسير ، عاشت حياتها حتى بلغت خريف العمر دون أن تقترن بزوج ، ربما لأنها وُلدت تعاني من إعاقة في الكلام ، ورأى أهلها أن من الشفقة بها أن تظل بينهم ، كما لو كانت طفلة صغيرة على مدى العمر كله ، وأن تظل تحت حمايتهم من غول الحياة ومتاعب الأيام التي لا ترحم .
( 2 )
وبالفعل عاشت تحت سمع وبصر والديها حتى موتهما ، ثم بعد ذلك تحت إشراف أختها الوحيدة التي تكبرها, كانت من القناعة في هذه الدنيا بحيث ترضى بأقل القليل ، وتمازجت مع خط الحياة الذي اختاره لها قدر الله . وما شكت مرة من ألم عضال كهذا الذي تشكو منه ذلك الصباح .. وبينما استمر ارتفاع أنينها ، جاء من ينقلها إلى مصحة كبرى بعيدة جدا عن قريتها .
يا ـ لهول الصدمة .. إنها ترقد على أحد الأسرة البيضاء . وبجانبها أختها رفيقتها هناك وهنا ... أيمكن لها أن تحتمل خروجاً من دارها كهذا الخروج الذي لم تألفه قط ؟ .
( 3 )
ضجت بالاحتجاج ، ومضت تتمرد على إجراء ينتزعها من قعر بيت ألفته وألفها عشرات السنين , وبدا جلياً تبرمها من هذه الانعطافة القسرية لمجرى حياة بسيطة وعفوية اعتادتها .. وأعلنت منذ البداية رفضاً قاطعاً لانتقال مفاجئ كهذا , حتى ولو كان لعلاجها ، حاول غير أحد أن يثنيها عن سيل احتجاجاتها وثورتها .. لكنها لم تكن تفهم إلا أن تعود إلى دارها العتيقة، هناك في القرية مع أختها ليعيشا ما بقي من عمريهما حياة العفوية والهدوء والتلقائية، ولما لم يُجدِ التفاهم معها انتزعها أهلوها بالقوة .
( 4 )
وعجزت المصحة الحديثة في المدينة الكبيرة عن إسكات مرضها , بل على العكس لقد زادت أوجاعها ... (معها حق فالعلاج لا يكون ناجعا إذا كانت النفس " مسدودة ") .. راحت صحتها تزداد تدهوراً .. ولمع خاطر مخيف في الأفق , في ذاكرة أحد أقاربها وهو يرمقها من ركن حجرتها بالمستشفى ...
- أتراه الموت بدأ يقترب ؟ .. أيمكن لهذه المرأة الوديعة، والبسيطة، والعفوية، أن يطول مرضها، أن تتعذب في ألمها، وأن ترقد كثيراً على السرير الأبيض؟ .
( 5 )
وجاء الجواب الحاسم لهذه التساؤلات القلقة، ظهيرة ختام الأسبوع الثاني لانتقالها إلى المدينة ، عندما أسلمت الروح لبارئها، في لحظة غياب عن الوعي، لتغمض عينيها لآخر مرة عن هذه الدنيا، وسط بيئة ما كانت تحلم أن تكون محطة قبرها، ولا مكان حياة لها خارج بيتها القروي البسيط، وبعيداً عن مجتمعها العفوي .
( 6 )
انخرط أقاربها في بكاء صامت على فقيدتهم التي عاشت في هدوء، وانسحبت من هذه الحياة بهدوء أشد، حملها المشيعون إلى قبرها، وهناك أنزلها إلى اللحد ابن أخيها، الذي أضجعها على شقها الأيمن، وعشرات الصور تتداعى أمام ناظريه، عن تلك الحياة التي عاشتها هذه المرأة في بساطة قلّ أن يعيشها سواها، وسيناريو أيام حافلة بشتى الملامح البريئة لها.
فهاهي طفلة غضة تمرح فوق الحقول مثل فراشة ملوّنة، ثم تعود إلى بيتها في براءة شديدة.
وظلت كذلك حتى قوي عودها لم يَشكُ منها إنسان، ولم يضق بها أحد، وما تذمر منها مخلوق.
يا ـ للبساطة الموغلة في الشفافية ، عندما يكون المرء بهذه الصورة الفردية.
يا ـ للحياة العذبة ، عندما تغادرها بكل هذه الزخم من حبال الود التي لم تنقطع يوماً مع الآخرين .
( 7 )
وهناك في قريتها التي جاءت منها، سرى نبأ وفاتها من بيت إلى بيت، لتخرج جاراتها من شرفات دورهن يرمقن دارها الموصدة الأبواب، وغنماتها التي أودعتها أمانة عند واحدة منهن على أمل العودة لها قريبًا، وانهمرت الدموع من المآقي، وبدأ شريط طويل من الذكريات العذبة لهن معها وأختها، يتداعى في رؤوسهن، وثارت بينهن أسئلة تنضح بالأسى :
- من سيفتح ذلك الباب الموصد ؟.
- من سيستقبلنا بالابتسامات وأقداح القهوة في تلك الدار ؟.
- من سيعيد لذلك البيت الحياة ؟.
- أحقاً لن تخط قدماها في باحته ـ بعد اليوم ؟.
- ولا عاد بالإمكان أن تدير شؤون غنماتها القليلة؟.
- أهي النهاية حقًا للفصل الأخير، من حياة تلك الطفلة العجوز؟


















