انتحار الوحش
بقلم : د.صلاح شفيع
كنت كلما قرأت أسطورة أوديب ، تعجبت من موقف الوحش أبي الهول ، لما يجيبه أوديب عن السؤال .. لكن من أوديب Oedipus أولاً ؟ أوديب يعيش في مملكة كورينث ولياً للعهد لأبيه بوليبوس لكن أحدهم يقول له : لست ابن بوليبوس ! ويضطر أوديب أن يتحرى الحقيقة ، فيذهب إلى معبد دلفى يطلبها هناك ، وهناك يقول له الكاهن :
ـ قدرك خطير ، تقتل أباك وتتزوج بأمك !
وبرغم أنه قد ذهب ليعرف هل بوليبوس أبوه أم لا ؟ إلا أنه لما رأى قدراً بشعاً كهذا ، هرب من مملكته كورينث ، خوفاً أن يبقى فيقتل أباه ، ويتزوج أمه ، وهكذا يهرب من اثنين يعرفهما .. أي يمكن أن يتحاشى الجريمة معهما .. إلى أرض واسعة ، لو كان ليس ابناً حقيقياً حقاً لبوليبوس ، فكل الناس من المحتمل أن يكون أحدهم أباه .. وكل أخرى من النساء يمكن أن تكون أمه.
ورحل إلى مدينة طيبة ، فيقابل رجلاً عجوزاً ، يركب عربة ويصحبه ثلاثة من العبيد ، والممر لا يتسع إلا لعربة واحدة ، لابد أن يرجع أحدهما ، طلب الأمير أوديب الذي كان حتى الأمس ولياً للعهد من القادم أن يرجع ، لكن القادم يبدو أنه أيضاً له مكانة كبيرة بدليل العربة الفخمة والحرس ، فرفض أن يرجع ، وطلب من الغريب الشاب أن يرجع هو .
وينزل الأمير الشاب ، فيقتل العجوز ، وحارسين مما معه ، ويهرب الثالث ، وهكذا ارتكب أوديب أول جريمة قتل . ربما إن كان أبوه مجهولاً ، قد يكون أحد الثلاثة أباه ، ومضى أوديب إلى المدينة .. ليجد نفسه وجهاً لوجه مع الوحش الذي يجثم على أنفاس المدينة ، ويكاد يتخلص من كثير من القادمين إليها.
إنه الوحش أبو الهول .. جسم أسد ، ورأس إنسان ، وله جناحان كالنسر ، ويسأل كل قادم سؤالاً واحداً .. فإن لم يجب عليه التهمه.. وطبعاً لا يهرب منه أحد ليبلغ الناس بالسؤال ، فربما استطاع بعض الحكماء الوصول إلى الإجابة .
السؤال كان : من ذا الذي يمشي على أربع نهاراً ، وعلى اثنين ظهراً ، وعلى ثلاث مساءً .. الإجابة هي الإنسان .. ولا أحد يجيب عنها ، الوحيد الذي استطاع الإجابة عنها هو أوديب ، ذلك لأنه رأي عجوزاً يتوكأ على عصا .. وبجواره طفل يحبو .. تذكر المنظر ، وحضر إلى ذهنه الإجابة .. إنه الإنسان يمشي في طفولته على أربع ، ويمشي في شبابه على اثنين ، ويمشي في شيخوخته على ثلاث . قدميه والعصا .
وكان الجميع يفشل ، والوحش يلتهم الفاشل ، لكن أوديب يعرف الإجابة : الإنسان .. لما سمع الوحش الإجابة .. كان المنطقي أن يغتاظ الوحش فيأكله ، أو يكون منصفاً فيسمح له بالعبور لأول مرة . لكن ما حدث أن الوحش صدم لما سمع الإجابة ، فما كان منه إلا أن انتحر !
وكان هذا هو موضع تعجبي ، لماذا ينتحر ؟؟ لأن إجابة السؤال عرفت ، فلماذا لم يفترسه لتموت الإجابة بموت الوحيد الذي عرفها ؟ لا ، إنه وحش منصف ، لا يمكنه أن يفترس الإنسان إن أجاب عن اللغز ، فإن كان ذلك ، فستعرف الإجابة ، وتنتشر ، وهنا لا تكون للوحش حياة في هذا المكان ، وأقول ولو ، يمكنه أن يغير السؤال ، وإن كان لا يستطيع يمكنه أن يعتزل اعتراض الناس ، وإن كان لا يستطيع يمكنه أن ينتقل إلى مكان آخر ويسأل سؤاله الوحيد ، وسيجد ضحايا كُثر ..
لكن الوحش كان منصفاً ، فصنع معادلة صفرية : يستمر الجهل ، أستمر أنا وألتهم الجاهل ، يتوقف الجهل ، أموت أنا ، ويحيا العالم.
وهنا وجدت أن الأسطورة تصرفت تصرفاً منطقياً بل هو المنطقي الوحيد ، إذ جعلت الوحش لا يعيش إلا بهواء الجهل ، فإن انتهى الجهل ، فلا هواء .
فالوحش أبو الهول Sphinx رمز للطغاة بشكل عام ، والقانون الذي يحكم العلاقة بينهم وبين رعيتهم : هو موقف الرعية من اللغز ذاته ، عليك أيها الإنسان قبل أن تدخل إلى المدينة أن تحل اللغز أولاً ، فإن عجزت عن الإجابة الصحيحة أصبحت من حق الوحش ، وستجد نفسك مستقراً في بطن الوحش ، وإن توصلت إلى الإجابة الصحيحة ، ينتحر الوحش .
فالوحش يتغذي على جهلك ، ويموت بعلمك ، ولما كانت إجابةُ السؤالِ هي الإنسان ، فإن من يغفل عن الإجابة يموت ويعيش الوحشُ ، ومن يفطن إلي ذاته ويعرف الإجابة يعيش ويموت الوحشُ ، فالعلاقة عكسيةٌ بين الوحش والشعبِ ، يعيش الوحش في غفلة الشعبِ وغيابِه عن ذاته ، ويموت إن وعي الشعبُ ذاتَه . وعندما عرف أوديبُ الحلَّ فقد عرف حقيقةَ ذاتِه ، لذا لم يتحمل الوحشُ أن يعرف الإنسانُ نفسَه فانتحر.
وفي مسرحية بعد أن يموت الملك لصلاح عبد الصبور يسقط المؤلفُ رمز أبي الهول على الملك نلمس ذلك عندما يموت الملكُ أثر اكتشافِ الملكةِ حقيقةَ نفسِها بعد أن عرتها موسيقي الليلِ ، فوصلت إلي إجابة اللغزِ ، هذا اللغز المعتمد علي جهل الإنسانِ لحقيقة نفسه . ولاشك أن الوحشَ الذي يؤلمه أن يعرف الإنسانُ ذاته هو رمزٌ مناسبٌ لكل طاغيةٍ يبغي أن يظل الإنسانُ في ضلالٍ ورعب ، ومن ثم يضمن استمرارَ وجودِه . وقد استمر وجودُ الوحش أبي الهول وطغيانُه علي الإنسان والتهامه الإنسانَ تلو الإنسانِ طيلة المدةِ التي ظل فيها الإنسانُ يجهل نفسَه ولا يقدر أن يحل اللغزَ ، ثم فقد الوحشُ الطاغيةُ حياتَه عندما فطن الإنسانُ إلي ذاته ونطق باسمه (الإنسان) .
ولا شك أن صانع الأسطورة ضمن لها الخلود لما بناها على حقيقة لا تتغير بالزمن ، وأن العلاقة ثابتة .. لا حياة لأبي الهول إلا في ضلال الناس عن ذاتهم ، ولعل قولة سقراط “اعرف نفسَك“ تلخص كلَّ ما وراء رمز أبي الهول .ولهذه القولة منزلتها عند مؤلف المسرحية ويرى أن بها تحول مسارُ البشريةِ.
وقد كان أوديبُ هو قاتل الوحشِ عندما أدرك ذاتَه ، ثم تأتي بعد ذلك مأساته الخاصة عندما أصبح حاكماً يطلب مجرماً غضبت عليه السماءُ ، ويصر علي عقابَه وهو لا يدري أن المجرم هو ذاته أي أنه ضل عن ذاته ، فافترسه الوحشُ .
وتكتمل المفارقةُ في مسرحية صلاح عبد الصبور عندما لا يموت الملك الوحش ، إلا عندما يفطن الشاعر لذاته ، وينبه الملك لذاتها ، لذلك عندما نجد أن الملكةَ تحيا عندما تفطن لذاتها ، ويموت الوحش عندما يري ذاته . وكأن الشر لا يطيق أن يري الحقيقةَ ، في حين لا يحيا الخير إذا غاب عن الحقيقة . فالملك ميدوزا يموت عندما يري نفسَه في المرآة .أما الملكةُ فتثور علي موتها وتكسر بابَ الزمنِ الميتِ وتخرج عندما تردها موسيقي الليل إلي نفسها.
وبذلك استعان المؤلف بأسطورة أبي الهول لتجيب علي سؤال جوهري في مسرحيته : متي يموت الملك الطاغية ؟ يموت كما مات أبو الهول في نفس الموعد . عندما يفطن الإنسان إلى ذاته .


















