التوكتوك... والتآكل الداخلي للأمة
بقلم : صباح أبوغزالة
من أخطر ما رمتنا به الحضارة الغربية المعاصرة : الروح الاستهلاكية التي دمرت المجتمعات العربية وحولتها من مجتمعات منتجة ومكتفية إلى مجتمعات مستهلكة ومستوردة ،وقد مست الروح الاستهلاكية المادة والوعي فتحولنا إلى مستهلكين لكل ما يصدره الغرب لنا سلعًا وأفكارًا وأساليب عيش وانماط تفكير دون غربلة ..الأمر الذي حولنا إلى مجتمعات تابعة تعيش بروح القطيع الخاضع ،وهو الأمر أيضًا الذي رهن استقلالنا وأسر قرارنا. لنتحول في نهاية المطاف إلى مجرد أسواق لما تنتجه المصانع الغربية ومجرد منفذين لما تقدمه مراكز التفكير والبحث والدراسة الغربية.
ولعل أخطر ما أصيب به شبابنا بالتوازي مع هذه الموجة الاستهلاكية العالية : عزوف شبابنا عن تعلم المهن والحرف والصنائع التي حفظت المجتمع المصري من السقوط وجريهم وتلهفهم إلى أعمال هي جزء من منظومة الاستهلاك المهيمنة علينا..
ونسي شبابنا ان المجتمع المصري هو سليل حضارة عريقة تفاعلت مع كل العهود والموجات لأنه مجتمع وارث للحضارة العربية والإسلامية التي اشتهرت أسواقها في كل المدن والحواضر بوجود حارات خاصة بالحرفيين والصنايعية من نحاسين وحدادين وصباغين ونجارين وبنائين وأبارين (من تأبير النخل)وزجاجين وفخارين وجصاصين وعطارين وعشابين وكحالين( أطباء عيون وحلاقين)..وإلى ما هنالك من حرف تحتاجها المجتمعات ،وقد حفلت كتب الرحلات التي كتبها الرحالة الأوروبيون في أولى مراحل احتكاك هؤلاء بالحضارة الاسلامية بتفاصيل عن المجتمعات الاسلامية والحرف التي كانت تمارس فيها ، أما ما ذكره الرحالة العرب فهو سجل حافل للمستوى الحضاري الذي كانت عليه هذه المجتمعات.
والمتابع لما سجله التاريخ عن تثمين الحضارة العربية لكل أنواع المهن والصنائع حتى أن نخبة ونبلاء المجتمع كانوا ينسبون إلى ما يمارسون من أعمال فهذا الفقيه الحطاب وذاك الأصولي الزجاج وذلك المؤرخ الزيات و هاذاك الطبيب العطار، وقد أحصينا في كتاب أعلام النبلاء للحافظ الذهبي نسبة أكثر من ستين بالمائة ممن ذكرهم من نخبة المجتمع منسوبين إلى حرفهم التي يمارسونها ويقتاتون منها.
وما إن اناخ الاستعمار بكلكله على البلاد العربية حتى سعى لتقويض المجتمعات العربية من الداخل وبدأ بأخطر عمليات غسيل الدماغ التي نجح فيها نجاحًا نسبيًا ولكنه عندما خرج ترك من يكمل مهمته من أبناء البلاد المنضبعين به ..وجاءت بعد ذلك الثورة الإعلامية والمعلوماتية ، التي حولت العالم إلى قرية صغيرة وأزالت الحواجز بين المجتمعات ولم يعد للتميز والتمايز قيمة.
ويؤلمنا أشد الألم أن شباب مصر من خريجي الجامعات والمعاهد عوض أن يولوا وجوههم شطر الحرف التي مارسها أباؤهم توجهوا إلى الحرف التي حملها النمط الاستهلاك : سواق توكتك ،بائع سجائر، حارس موقف سيارات ،مرافق ،أنيس ،حارس شخصي، مندوب مبيعات ..إلخ ،الامر الذي فاقم من تبعية المجتمع المصري للإنتاج الأجنبي حتى الركن القوي الذي كان يأوي إليه المجتمع المصري عبر كل تاريخه ركن الأرض والطين الذي جعله الإنسان المصري صنو العرض وقال عنه: الأرض عرض ،اهملناه وتركناه وهجرناه وانتقلنا للعيش في العشوائيات في ضواحي المدن الكبرى ،هذه العشوائيات تحولت إلى بؤر للارهاب والجريمة وكل الآفات الاجتماعية ،وفي إحصائيات مراكز البحث والدراسة الغربية اجماع على أن أحزمة الفقر المحيطة بالمدن في جل البلاد العربية هي مخابر لانتاج داعش وأخواتها وحظائر لإستولاد ما هو اسوأ من داعش.
إن المجتمع المصري عبر تاريخه العريق كان مجتمعًا منتجًا مثل بحق سلة العالم الأمر الذي جعله يبني أعرف وأرقى حضارة إنسانية،وكان الإنسان المصري عبر كل التاريخ الانساني رمزًا للرقي والحضارة وبحبوحة العيش حتى أن النقود الذهبية والفضية المتداولة في مصر في كثير من العهود والتي حملها المصريون إلى كل مكان حلوا به كانت اكثر العملات قيمة يومها ما جعل الأشقاء في سورية العربية يسمون النقد باسم المصاري أي النقد المصري ..ولن نعود إلى ما كنا عليه حتى نتحرر من مهنة سواق التوكتوك التي جرفت معها قيمنا الراقية وأخلاقنا السامية وجعلت من المجتمع المصري المجتمع الأكثر في حوادث الاصطدام ...ولن نعود إلى كرامتنا حتى نثمن مهنة الفلاح ..والمصري الأصيل فلاح صميم.
إننا في أمس الحاجة لإعادة النظر في كل منظوماتنا : التربوية والإعلامية والاجتماعية وتحويلها إلى منظومات تثمن المهن وتنتقص من كل الأعمال التي وفدت على منصة الموجة الاستهلاكية وعلى رأسها مهنة سواق التوكتك وبائع السجائر وبلطجي الشوارع.
لقد أسس شرلمان أحد أشهر ملوك أوروبا لمنظومة تعليمية لها اهتمام خاص بالتاريخ والحرف وتقاليد الأسرة ومنها انطلقت أوروبا في ثورتها الصناعية الكبرى ،حتى أن البرامج التعليمية لكل الدول الأوروبية إلى وقت قريب جدًا كان للحرف فيها مكانة سامية ما يجعل الفتاة الفرنسية حديثة التخرج من الجامعة تفضل أن تسوق قطيعًا من الماعز ترعى به في جبال الألب لإنتاج أحد أجود أنواع الأجبان على أن تستلم وظيفة في مكتب يطابق شهادتها الجامعية.
لن يستطيع المجتمع المصري تحقيق الاقلاع الحضاري إلا إذا عاد إلى جذوره وأصالته ومهنيته وتقديسه لكل أنواع الجهد المنتج الهادف المثمن للعمل اليدوي.
ومصر العظمى اليوم على موعد مع التاريخ والجغرافيا والحاضر والمستقبل بعد أن نجت من مخطط إغراقها في الفوضى الزلاقة رهانها على شبابها ،هذا الشباب الذي حقق معجزة العبور المقدس في أكتوبر المنزه بيد وعقل وروح وإرادة مصرية خالصة ،لهي على موعد أيضًا مع مسؤوليتها التاريخية والحضارية ،والبداية الواعدة بعودة شبابها إلى تثمين ما كان عليه المصري الأصيل..
حمى الله مصر لشبابها وسمى الله بشبابها من أجلها .. عاشت مصر مرفوعة الراس ،مرهوبة الجناب،عزيزة النفس ،حرة الإرادة .


















